أثير- د.عبدالله باحجاج
هذا المقال هو الجزء الثاني من مقالنا المنشور يوم الثلاثاء الماضي عبر صحيفة ” أثير “، والمعنون باسم بلادنا ثقيلة بوجودها وموجودها .. فلا تخشوا عليها .. ” وقد ارتأينا تغيير العنوان لدواعي الدلالات والتوضيحات المسبقة ، وأخرى ستفهم من السياقات ، بينما سيكون في جوهره تكملة له ، لكن من منظور ضمانة الديمومة أي ديمومة قوة بلادنا ، والتي أشرنا اليها في الجزء الأول بالثنائية التالية ، الوجود ( أرض ، طبيعة ، حكم ، اقتصاد ، مجتمع ) والموجود قوة المجتمع في تناغمه وتعايشه وأفكاره وقيمه وتاريخه المتجذر .. ) .
وعندما نعمل الفكر الاستشرافي لمستقبل الوجود والموجود ، تنتابنا مجموعة هواجس ليس بسبب حالات الاختراق والتجسس المتكررة على بلادنا ، فقد أوضحنا في الجزء الأول من المقال ، بأنها لن تمس بنية الدولة الفوقية والتحتية أبدا ، وإنما قد تؤخر مشروعا اقتصاديا أو مرفقا عموميا ، وتكون قدرة الأجهزة الأمنية على اكتشافها في التوقيت المناسب بمثابة ردع لتحصين النخب .
لذلك ، قلنا بأننا لن نخشى على بلادنا من الاختراق والتجسس بعد مآلاته الفاشلة ، لكننا ينبغي التفكير في خيار ما بعد الفشل ، وخياراته المقبلة ، ليس من منظور دولة بعينها وإنما من منظور التحصين المجرد لذاته ، فمن المعروف أن استهداف بلادنا هذه الأيام ، ليس من قبل دول محددة ، وإنما له جنسيات متعددة قد أصبحت معلومة ، وهذا يحملنا على المستويين الرسمي والشعبي الحذر الشديد.
من هنا ، تنتابنا مجموعة هواجس كبيرة ، لابد من طرحها لدواعي ضمان الاطمئنان في مسيرنا نحو المستقبل ، منها ما هي معلومة ، ومنها يلتبس فيها الرأي العام ، وفي كلتا الحالتين هي خارجة عن الإدارة السياسة ، بينما تبدو إدارتنا الأمنية فاعلة فيما يظهر فوق السطح أو تحته من تفاعلات سلبية .. ولديها القدرة على التعامل معها في وقتها المناسب ، لكن ماذا عن البيئات التي تتشكل منذ عام 2014 والتي قد تفتح منافذ للمساس ببنيات فوقية لبلادنا ؟
• هاجس الالتباس لدى النخب والرأي العام .
يدور جوهر هذا الالتباس لدى الكثير من النخب بما فيها الاجتماعية والرأي العام في عدم استيعاب مشهد وطني داخلي حول علاقة بلادنا بدولة شقيقة ومجاورة ، تدور حولها الأحاديث علانية حول مخططاتها التجسسية والاختراقية لبلادنا ، وفي الوقت نفسه يحدث ما يتناقض مع ذلك ، فكبار المسؤولين ومتوسطوهم في زيارات خاصة لها في كل عطلة أسبوعية ، وتنقل وسائل التواصل الاجتماعي صورهم وهم في الفنادق والأسواق ، وقد تعزز هذا التناقض مؤخرا ، الاجتماعات الاقتصادية بين البلدين ، والإعلان عقبها عن إقامة شراكة اقتصادية جديدة ، في وقت تتهم فيها هذه الدولة بأنها عرقلت مشاريع اقتصادية عميقة في بلادنا .
مشهد وطني ، بدأ للنخب وللرأي العام مرتبكا الى حد كبير ، وقابلا لتفسيرات وتأويلات اجتهادية في ظل المشهد الملتبس سالف الذكر ، لأن هناك منطقا في إقامة الشراكات بين الدول ، كـأن تختار الدول بدقة شركاءها الاستراتيجيين ، وبصفات محددة ، مثل الاعتدال والتسامح وقليل المشاكل وليس عنده أطماع في الآخر، وأن تكون المنفعة مشتركة ، والقناعة الكاملة بأن كلا البلدين تتوفر لديهما رغبة النفع العام المشترك.
فكيف يمكننا أن نفك غموض هذا المشهد الوطني المتلبس ؟ فبقاؤه يعني أن الحذر في التعامل مع الجار الشقيق ، مقتصرا على المواطن والنخب فقط ، بينما كبار المسؤولين ورجالات اقتصادنا ، محصنين من الاختراق والتجسس ، وللأسف ، كل من يقع في الاختراق والتجسس هم من تلكم الفئة ؟ حتى لو سلمنا بالبرغماتية العمانية في إدارة قضايا الاختراق والتجسس ، فإن هذه البرغماتية بدورها تعمق الالتباس نفسه ، فإذا كان هذا الجار يعرقل مشاريعنا وله أطماع في شأننا الداخلي – كما فهم الرأي العام – فكيف ندخل معه في شراكة جديدة موسعة ؟
تلكم تساؤلات عقلانية من رحم المشهد المتلبس ، خاصة في تطوراته الجديدة التي تجمع قمة المتناقضين ، مما تدخل المجتمع في حالة اللامبالاة رغم انه قد يكون المستهدف القريب .
• هاجس المتغيرات الاجتماعية الناجمة عن سياسات مالية واقتصادية .
تندرج هذه السياسات ضمن رؤية التحولات الاقتصادية الجديدة في بلادنا ” 2040″ وبالتالي ، فإن دراسة انعكاساتها السلبية على المجتمع قد أصبحت من المسائل الحتمية والعاجلة ، فهذه السياسات ، تقلص من تقديم الدولة لخدماتها الاجتماعية بصورة فجائية ومدهشة ، مقابل التوسع في الخدمات مدفوعة الثمن فجأة بعد ما كانت مجانية طوال عقود النهضة المباركة .
كما تلجأ هذه السياسات إلى تبني منظومة متكاملة من الضرائب والرسوم مع اتباع سياسة التشديد في تحصيلها في ظل ثبات مرتبات الموظفين وعدم كفاءتها لمواجهة استحقاقات مرحلة الضرائب ورفع الدعم عن الكثير من الخدمات الأساسية ، ويتقاطع مع هذا الوضع الجديد ، مشهد آخر ، نستحضره هنا مجددا ، لتوضيح حجم المتغيرات الاجتماعية المقبلة ، وهو المرتبات الضعيفة للآلاف من شبابنا في القطاع الخاص.
ففي مقال سابق ، استشهدنا بإحصائية ترجع لعام 2016 ، تفيد بان أكثر من ” 30% ” من العمانيين المؤمن عليهم ، تتراوح مرتباتهم ما بين ” 325- 400 ” ريال شهريا ، وعددهم أكثر من ” 64 ” الف من اجمالي أكثر من ” 210 ” الف ، بينما معظم أجور القطاع الخاص تبلغ ” 400- 600 ” ريال ، ولابد أن نضيف كذلك ، مشهد الباحثين عن عمل ،وتراكمهم السنوي ، في حين لا يمكن لأية جهة رسمية أن تجزم بعددهم الحقيقي .
وقد بدأت لنا خارطة التحولات الداخلية في تلكم البنيات التحتية بصورة سلبية مقلقة ، فالكثير من الانعكاسات الإيجابية للاقتصاد العماني تذهب للوافدين من حيث مستويات الأجور قياسا بأجور أبناء البلد ” وفق ما أشرنا اليها سابقا ، بدليل ما ذكره تقرير بنك أتش اس بي سي بأن السلطنة جاءت السادس عربيا في رواتب الوافدين لعام 2018 ، والمركز ” 24 ” عالميا .
فماذا ينبغي أن نستشرف من هواجسنا الأخيرة ؟ من السهولة بمكان رؤية المتغيرات المستقبلية على المجتمع ، فهى تصنع مجتمعا جديدا بعيدا عن إرادة وسيطرة الدولة بعيدا كل البعد عن فكر النهضة الذي صنع التقدم والتطور دون المساس بالمجتمع وقيمه وثوابته وتوازنات استقراره ، فكل من يملك المال – بأي شكل من أشكاله – سيكسب أفراد المجتمع ، لأن تلكم السياسات الحكومية تعوم دور الدولة ، وتتركه للاستقطابات الداخلية والخارجية .
وبذلك ، تهيئ العوامل والظروف للتوظيف السياسي لمختلف أنواع اهداف الاختراق الأجنبي لبلادنا ، ولو حاولنا الاستعانة ببعض النظريات الأمنية التي تفسر نشوء بعض الظواهر المعاصرة التي يكون وراءها عنف بشري غير طبيعي ، فإنها ترجعه إلى سبعة أسباب ، يحتل من وجهة نظر بعضها، العامل الاقتصادي المرتبة الثالثة ، والعامل السيكولوجي الاجتماعي خاصة الإحباط والياس وتفكك المجتمع المرتبة الرابعة ، وهذان العاملان مرتبطان من حيث التبعية ، فالضغط المالي على المجتمع ورفع الدعم عنه .. وفقدان الثقة في إحقاق الحقوق .. تؤدي تلقائيا الى الإحباط وتفكك المجتمعات .
وهاجسنا هنا ينحصر في تأثير تداعي العامل الاقتصادي والسيكولوجي على المجتمع وتعايشه وأفكاره وتوازناته .. ، وبالتالي مدى تقاطع البعد الخارجي سواء كان إقليميا أو عالميا في توظيفه سياسيا لصالح أجندته الإقليمية ، لأن تلكم السياسات تؤدي إلى تفقير الكثير ، وجعل الأغلبية تحت الحاجة المالية .. فالى أي مدى ستصمد قوى المواجهة الاجتماعية تحت الضغوطات المالية القوية ؟
• الديمومة .. تبرر هواجسنا الجريئة.
من منطلق عنوان هذه الفقرة ، تتضح أن هواجسنا ليست مبنية على أحاسيس متخيلة أو مفترضة ، وانما من وقائع ومعطيات لا يمكن تجاهلها أبدا ، لكن ورغم ذلك ، سنعدها هواجس – أي أحاسيس – لكنها أقرب للواقعية ، وندلل على هذه الأخيرة ، برؤية استقرائية وتحليلية سريعة ، لكي نتوصل للنتيجة التالية :
وهى أن السياسات المالية والاقتصادية في بلادنا ، لا ينبغي التعامل معها على أنها شأن داخلي بحت دون التأمل في مدى مستقبل النفاذ الخارجي منها لشأننا الداخلي ، مما بدأ لنا المشهد ، وكأننا نصنع للخارج الظروف الموضوعية المؤاتية للتدخل من الباب الواسع ، لكن هل يتم هذا بوعي من الداخل ؟
• العالم الخارجي المخيف .
هو عالم قد تعددت وسائل اختراقاته وتجسساته ، واختلفت بصورة مذهلة ، وتحولت طموحاته الإقليمية والعالمية إلى حالة من المرض النفسي غير المسيطر عليه ، مما أصبح الحلم بالابتلاع يرادوه أصحابه في النوم واليقظة ، ومعه بدأت تسقط بعض نخبنا في براثن الأعيبه القذرة ، ولكن طواها ويطويها التاريخ ، كعبرة لمن يعتبر .
وليس هواجسنا سالف الذكر تكمن في هذه المنطقة ، لأنه قد أصبح السقوط المتوالي هو مصير حتمي لمن يخون بلاده أو يتواطأ مع الخارج ، وإنما فيما يخطط إقليميا وعالميا ، فقد التقت اجندة إقليمية مع اجندة عالمية في ربط وجودي ، لا يتصوره العقل العربي والمسلم على السواء ” أبدًا ” وهنا مكمن الهواجس إذا لم تعمل السياسة العمانية ببعيدها الداخلي والخارجي على إدارة هذه المرحلة من منظور ذلك التلاقي الغريب .
ولتوضيح أكثر ، يمكن القول ، بأننا في مرحلة أصبحت دول فاعلة إقليمية تربط تحقيق اجندة هيمنتها الإقليمية بتحقيق أولا أو تزامننا ، للأجندة العالمية الجديدة ، وعلى وجه الخصوص الاجندة الصهيونية الامريكية في عهد ترامب ، كشرط وجوبي لتحقيق هيمنتها الإقليمية ، ومن أجلها سارعت الى تقديم عرابين وفاء والتزام مالي وسياسي وربما عسكري .
ومع هذا المفصل الخطير ، وجدت بلادنا ذاتها أمام خيارات كلها صعبة ، فاختارت مضطرة الأقل ضررا ، منها استعادة الفعل من الآخرين ، وبينت انها لاعب إقليمي لا يمكن القفز فوقه ، أو النيل منه ، وانها قادرة على بعثرة الأوراق اذا ما رأت انها ستمس مصالحها ، وهي بذلك ، أمنت هواجسها الخارجية بالثمن السياسي المعروف ، لكن ، ماذا عن الهواجس الداخلية التي أشرنا اليها لاحقا ؟
• التدخل السياسي العاجل
قياسا بالتدخل السياسي الخارجي ، ، نطالب بالتدخل السياسي في البعد الاقتصادي لدواعي الديمومة ، وضمان المسير الآمن في ظل التحولات الداخلية والخارجية الكبرى ، لأن الهواجس سالفة الذكر تشير بوضوح الى خيار محتمل من مسألة التوظيف السياسي للعنف العابر الحدود اذا لم نعمل على سد منافذه المحتملة ، ولن يتأتى لنا ذلك الا عبر تدخل السياسة في المسارات التنموية والاقتصادية الجديدة وفك الالتباس للنخب وللرأي العام من علاقة بلادنا الإقليمية خاصة بين ما يسمعه إعلاميا وبين ما يراه واقعيا ، وهو مشهد وصفناه لاحقا بأنه يثير الارتباك داخل المجتمع للأسباب التي أمعنا التعمق فيها من خلال إطلاق هواجسنا الوطنية بجرأة الموضوعية البناءة التي تستقيم مع الوعي وتخاطبه بعقلانية ، وهذا كله من أجل ديمومة الوجود والموجود الذي صنع لنا وللعالم أجمع ، وطن الأمن والأمان والسلام ، قد يكون مستهدفا في هذه الذاتيات ضمن حزمة استهدافات كبرى ليس من دولة واحدة ، وإنما من عدة دول .. وللموضوع تتمة .