د. عبد الله بن خميس المعولي
مصطلح لساني تداولي يرمي بالدرجة الأولى إلى فهم النص المكتوب ودراسة المعنى من خلال ” تتبع خواص تراكيب الكلام”(مفتاح العلوم ص77) لينتج بعد ذلك استخلاص المعنى الّذي أراده المتكلم.
والمعنى المستخلص من النصّ يتحول إلى فعل عن طريق الأحكام والقوانين والتشريعات-بمعنى آخر-إنّ فهم إرادة المتكلم في النصّ هو المركز الرئيس والنواة الأصيلة في صياغة الأحكام التشريعية وهو لا يختلف عن النص ّ المسموع في حاجة المستمع إلى فهم إرادة المتحدث – إلا أنّ الأخير يحتاج إلى قدرة ذهنية تعتمد على الفراسة وسرعة البديهة – و تطبيق ذلك الفهم إلى سلوك مادي أو معنوي يخرج من المتكلم إلى المخاطب وهي مرحلة أخرى ؛ ثم يتحول السلوك إلى إرادة ينفذها ويلتزم بها المخاطب وفقا لدرجات المتكلم وما يملكه من قوة ناجزة في تحقيق غرضه وأهمية المرسل.
ولهذا تجد كثيرا من الكتب تحاول شرح وتبسيط إرادة المتكلم أو الكاتب من خلال تأليف الشروحات أو عقد المؤتمرات الصحفية أو اللقاءات أو الاجتماعات كما أنّ المصطلحات التي أطلقها علماء الكلام والأصوليون مثل حال المتكلم والقرائن المانعة، الحقيقة والمجاز، الخبر والإنشاء … لفهم النصوص الدينية. هما دليلان على لطف المساءلة وتحديات دراستها.
مع استفاضة علم المعاني والدراسات التداولية الحديثة في نطاق دراسة وفهم الخطاب بكل أنواعه تبقى مساءلة فهم إرادة المتكلم من الأمور التي تحتاج إلى نوع من التركيز والفهم العميق؛ إذ إننا لما نصل إلى النسبة الكاملة في تحقيق فهم إرادة المتكلم في مجتمعنا ناهيك عن ترجمة تلك الإرادة إلى أفعال ثم تطبيق تلك الأفعال إلى واقع ملموس يمكن قياسه وتقويمه وهذا راجع لأسباب عديدة. وهنا يمكن أن نسأل:
هل فهم معنى إرادة المتكلم يكون هو الأقوى والأنسب لتلاشي الاختلاف والتباين الحاصل مع إرادة الفعل الّذي ينشغل به المخاطبون ويلزمون أنفسهم انتهاجه بسبب اعتقادهم أنّهم امتلكوا فهم إرادة المتكلم؟
وهل عناصر الاتصال وأبعادها الثقافية والاجتماعية والنفسية والسياسية والأحقاب الزمنية والتاريخية تزيد من تحديات فهم إرادة معنى المتكلم؟
يُعدّ العامل الثقافي من العوامل الأساسية في وصول المخاطب إلى فهم إرادة المتكلم فبه يسهل التواصل بين الطرفين وتتم عملية فهم المسموع والمكتوب الناشئ عن لغة مشتركة ومعين ثقافي متقارب وأيدلوجية واحدة لكن ذلك يكون مع فئة قليلة لا تصل بنا إلى عالمية الفهم المشترك بالإضافة إلى ذلك أنّ الثقافة متفرعة ومتباينة في الحي الواحد حتى لو تساوت في اللغة والتلقين فالتباين سيكون حتميا في الأيدولوجيات التي بدورها تنتج فهما مختلفا لإرادة المتكلم ومنه تنشأ الاختلافات والخلافات.
أمّا العامل الاجتماعي فيؤثر بشكل أكبر على التباين بين المخاطب والمتكلم في الإقناع إذا كان الدافع تغيير الواقع الاجتماعي بنظرة مختلفة عمّا عهده المخاطب وبها قد يتساوى المخاطب المثقف مع غيره في قراءة إرادة المتكلم؛ لأنّ المشترك بينهما هو أعراف المجتمع وتوجهاته وربما يكون المثقف أكثر إدراكا بقيمتي الصواب والخطأ لكنّ تيار المجتمع ومصلحته الشخصية يقفان حائلا دون بلوغ درجة تطبيق إرادة المتكلم بل يسعى المثقف إلى تضليل وإقصاء كلّ من يسعى إلى جعل إرادة المعنى منجزًا وفاعلًا. أمّا العامل النفسي فهو يعمل بدرجة كبيرة مع المصالح الاجتماعية والدينية والسياسية في قراءة مختلفة لإرادة المتكلم وتغييب القصد من تعبيره خاصة إذا كان البعد الزمني والمكاني أو أحدهما متسعًا بين المتكلم والمخاطب ويلعب التاريخ الدور ذاته لكنه يضيف على ذلك أنّ الجميع سيحصلون منه الحجة والدليل على صدق روايتهم ويكرسون حجة فهم إرادة المتكلم على مجتمعهم وعليه يبنون الأحكام وكذا الحال في السياسة.
إنّ منطلقات فهم إرادة المتكلم تخضع لقوانين عقلية وعوامل بشرية أثرت فيها وتطبق بعوامل بشرية زادت في تأثيرها سلبًا وعليه فإنّ جهود دراسة النص المكتوب والمنطوق وما آلت إليه الدراسات اللسانية الحديثة وتطوراتها تبقى عاجزة عن الوصل إلى فهم إرادة المتكلم بنسبة كاملة؛ لأنها تظل جهودًا إنسانية حتى لو خضعت لقوانين فلسفية أو لغوية أو تطبيقية مجردة تحتكم بها إلى العقل البشري؛ لأنّ الوعاء الناقل والوسيط والقارئ تخضع لتباينات اجتماعية وثقافية ونفسية وسياسية لن تصل إلى إدراك حقيقة إرادة المتكلم وإن وصلت إلى هذا السلّم فإنها ستلتطم بحاجز إرادة الفعل وتقييمه.
ولنا أن نقول بأنّ الحرية وتنمية العقل هما الكفيلان للوصول إلى درجة أكبر لفهم إرادة المتكلم والتعبير عنها ومراقبة تطبيقها؛ ليكون العقل هو الحجة في ترجيح تلك التباينات بعيدًا عن أهواء النفوس والمجتمع وإغواء التاريخ والسياسة وبهما يمكن أن تتحقق العدالة الاجتماعية والقدرة على المحاسبة من خلال القنوات التي تكفل مفهومي الحرية وتنمية العقل وتطويره من خلال رؤية علمية واضحة ووسائل معينة لبناء شخصيات قادرة على فهم إرادة المتكلم والعمل على تطبيق وتقويم تلك الإرادة.