وسام العاني- شاعر عراقي
لوهلةٍ، يُخيل إلي أني أجلس في نفس الرحلة التي يستقلها (عبد الله) إلى فرانكفورت، وأطل من شباكه لأرى من زاوية علوية وبوضوح تام قرية (العوافي) بمنازلها وحاراتها وأحزانها وأفراحها، بطرقها الرملية المغطاة بالحصى، بأفلاجها وأشجارها القليلة، وبمقبرتها الخالية من العشب.
بوضوح تام أرى جميع الشخصيات وكأن يدًا ما أزالت سقوف المنازل لأتمكن من سماع حواراتهم ومناجاتهم وضحكاتهم وحتى نوبات بكائهم وصراخهم الهستيري أحيانا. لوهلةٍ، كنت أغوص معهم كأي فرد من أفراد قرية العوافي أشاركهم الماضي بكل أحداثه وتفاصيله، بحلوه ومره، وأنتقل معهم إلى المستقبل الذي تصنعه أقدارهم وكأنني أعرفهم واحدا واحدا.
خرجت من الرواية متعبًا، سنين طويلة وأنا هناك أتبع فضولي وهو يجرني للبحث عن تفسيرات منطقية للتحولات الزمانية والمكانية التي تتوالى في دوائر مغلقة لا يستجد فيها شيء سوى بعض الإضافات الشكلية الضرورية والتي تتغير من بيئة إلى أخرى حسب رؤية (المخرج). مقدر لهذا الانسان أن يعيا بحثًا عن ذاته المفقودة، وعن إجابات منطقية لتراتبية أقداره وارتباطها بالزمان والمكان دون إرادته. تتوالى دوائر التحولات من حوله، لكنه يتشبث وبكل عنفوان التراب الذي جُبل منه، بكينونته الموغلة في القدم، فالإنسان هو الإنسان، كتلة المشاعر المتزاحمة في الجسد الطيني.
في سيدات القمر، الرواية التي تتكلم عن سيدات ورجال ينحدرون من عائلات تتنوع طبقيًا ما بين ملاك أراضٍ وعبيد، أغنياء وفقراء، حضر وبدو، ترسم جوخة الحارثي شخصياتها بعناية فائقة ببعديها الواقعي والرمزي، وتضع تفاصيل الماضي والحاضر وتترك المستقبل فارغًا ليملأه القارئ.
ولا تغفل عن شاردة ولا واردة قد تساعد في تجسيد شخصياتها على المنحى الذي يبدو أنها وضعته منذ البداية لعالم روايتها ولم تحد عنه طوال الأحداث، كما أعطت كل واحدة منها صوتها الذي يظهر بين الحين والآخر عبر فصول الرواية ليشارك الراوي العليم في سرد مواقف بعض الشخصيات، بضمير المتكلم. وتضع خطوط الزمان والمكان بحس عال، مؤمنة أن بيئة الرواية هي الحدث الرئيسي، ولذلك لا تغفل أن تتمدد أفقيًا بما يسمح لها برسم تفاصيل الشخصيات وعلاقاتها بمنتهى السلاسة والتدفق، بما يساعد على التقاط تفاصيل الحياة القديمة في قرية العوافي التي تصور المجتمع العماني في بدايات القرن العشرين، إذ تتضح سمات هذا المجتمع من خلال سلوكيات أفراده وأساليب تعاملهم مع المرأة والعبيد والعادات والتقاليد والخرافات، لتتجاوز ذلك إلى نظرتهم للحب والزواج والعلاقات بين الجنسين وصولًا إلى نظرتهم للموت وتعاملهم معه.
جوخة في روايتها المبينة بأناقة عالية تقول لنا بأنها لا تصنع حدثًا يتنامى عموديًا على طريقة الأفلام، بل تنسج الحبكة بطريقة ناعمة، أو بما تسميه جوخة الانزلاق الناعم، فلكل شخصية ارتباطاتها العاطفية ومشاعرها الذاتية المنفصلة التي تدفعها لاتخاذ قراراتها التي على أساسها يتنامى الحدث وتتشكل الحبكة، التي لا تخلو في كثير من الأحيان من عنصر المفاجأة، ومن براعة الكاتب أن يسمح لك بتشكيل مخيلتك تجاه مصائر الشخصيات لكنه في النهاية يضع مصيرًا لم تهتدِ إليه مخيلتك، أليست هذه هي الحياة؟
ظلت جوخة الحارثي بارعة طوال أحداث الرواية في عنصرين مهمين؛ الأول التنقلات الزمانية والمكانية، والثاني مد الأفق البصري لبيئة الرواية لتعطي زخمًا أكبر لمحيط الشخصيات وتكوين أبعادها النفسية بما يجيب عن كثير من الأسئلة التي قد تتقد في ذهن القارئ حول منطقية الأحداث وتراتبياتها.
إن التنقل الزماني لمشاهد الرواية كان أشبه بعملية ديناميكية تضع خلالها الكاتبة الريموت كونترول بيد القارئ ليتمكن وبوعي تام من تصفح الأحداث التي تمتد لعقود، من دون أن يضطر لتقليب الصفحات ومراجعة ما قرأ، بل ويشعر بوطأة الزمن وهو يلقي بظلاله على مصائر الشخصيات بماضيها وحاضرها. وما كان لهذا العنصر الفني أن يكون فاعلًا لولا أن الكاتبة اشتغلت بعناية فائقة على التراتبية الزمنية للأحداث وتداخلاتها مع بيئة الرواية بما يوحي بوعي عالٍ وتركيز كبير تمتعت بهما الكاتبة طوال فترة الكتابة التي امتدت لسنوات.
إن هذا الأسلوب الرشيق في التناقل الزمني يعطي حرية أكبر للكاتب للإفصاح عن التفاصيل الحياتية لشخصياته وطبيعة علاقاته مع الآخرين ومع البيئة، ويؤكد فكرة عدم وجود شخصية محورية، وأن الأحداث المرتبطة بالشخصية لا تتنامى بشكل درامي عمودي، بل تتمدد بشكل أفقي، يساعد على كشف الكثير من خفايا الشخصيات الأخرى وسبر أغوارها وبمستويات متعددة.
قد يتبادر للذهن من قراءة الصفحات الأولى للرواية أن شخصية (ميا) قد تكون محورية ومن خلالها يتم التوسع في البناء الدرامي للرواية، لكننا نكتشف وبوقت قصير أن (ميا) لم تكن إلا مدخلًا لمجتمع (العوافي) المتشابك بعلاقاته وطبيعته التي تحاول من خلاله الكاتبة تجسيد بيئة (عُمانية) تصف أحداث وسمات حقبة زمنية مهمة من تاريخ سلطنة عُمان سياسيًا واجتماعيًا.
ومن هنا كان من المهم جدًا لدى الكاتبة، توظيف البيئة مكانيًا وزمانيًا لتوفر بعدًا آخر يساعد في فهم سلوكيات شخصياتها والنوازع النفسية وراء قراراتها.
لم تخلُ الرواية، شأنها شأن كل عمل إبداعي، من بعض الملاحظات التي لا تتصل مباشرة بالبنية الإبداعية للرواية، مثل رتابة الصفحات الأولى، ووجود (عبد الله) في رحلة على طائرة متجهة إلى فراكنفورت لم توضح الكاتبة أسبابها ولا مآلاتها، مع بعض المصائر التي قد تبدو غير منطقية لو قرأت بمعزل عن الفكرة الرئيسية للرواية مثل انتحار (مروان الطاهر).
الغرابة لا تكمن في حصول الرواية على جائزة المان بوكر العالمية لعام 2019، رغم أنها صدرت لأول مرة بطبعتها العربية عن دار الآداب قبل تسع سنوات، لكن الغريب حقاً أنها تأخرت كل هذه الوقت لتنال استحقاقها.