أثير – د. رجب بن علي العويسي-خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يطرح تساؤلنا جملة من الموجهات التي تستدعي مزيد من التكامل المؤسسي والعمق في إدارة ملف البحث العلمي ونقله إلى حيز الممارسة، فمع أن المؤشرات في هذا الجانب باتت تعكس مستويات عليا من الجدية في التوجه بالبحث العلمي إلى مسار الإنتاجية وربطه باستراتيجيات الواقع وتوفير البدائل والحلول لمشكلاته، إلا أن المدى الذي تضعه الجامعات ومؤسسات التعليم العالي الوطنية في استقطاب الكفاءات البحثية الوطنية من خارج مؤسسات التعليم العالي ما زال يتسم بالغموض في ظل ضبابية المؤشرات الإحصائية التي تبرز جهودها في هذا الشأن ، بشكل يمكن أن تبني عليه سياسات تنموية تتسم بالعمق والنضوج والمهنية.
لذلك يبرز واقع الحال أن وجود رؤية لاستقطاب الباحثين والخبرات البحثية في مؤسسات التعليم العالي ما زالت غير واضحة، وتمر بمنعطفات صعبة وتعقيدات كثيرة، سواء ما يتعلق منها بالبنية التنظيمية للبحث العلمي أو البنية الإدارية والفنية للمؤسسات والوصف الوظيفي للوظائف البحثية ، أو المساحة التي يمكن أن تمنح للباحث المتخصص في غير المؤهلات العلمية المعروفة ، كونه موظف محكوم بمهام عمل واختصاصات وظيفية ومسارات مهنية محددة وحضور رسمي وفق ضوابط معروفة وساعات دوام معلومة، وكون النظام التأسيسي والأكاديمي للجامعات ومؤسسات التعليم العالي في أحيان كثيرة، قد لا يتيح دخول هذه الفئات أو استقطابها إلا بعد استكمال إجراءات دقيقة وعمليات طويلة معقدة، ناهيك عن أنالعمل في المراكز البحثية بالجامعات بالرغم من تعددها وتنوع مجالات اختصاصها ما زال مقتصرا على العاملين بها والمختصين من أعضاء الهيئات الاكاديمية بالجامعات أو مؤسسات التعليم العالي، كما أن مساحة الدعم والصلاحيات والفرص المتاحة لها يحول دون استقطاب الكفاءات البحثية المجتمعية إلا بناء على موازنات وعقود والتزامات.
وعليه ينطلق تناولنا للموضوع من فرضية الدور البحثي الذي تقوم به الجامعات في مسيرتها المهنية، وعبر الاهتمام بالبحث العلمي باعتباره ركيزة أساسية في عملها تضاف إلى وظيفتها التدريسية والأكاديمية وخدمة المجتمع، وتبقى المساحة التي تمنحها الجامعات ومؤسسات التعليم العالي المختلفة للكفاءة البحثية العمانية من خارج هذه المؤسسات أو من الذين لا ينضوون إلى قوتها البشرية، أحد المعطيات التي ينبغي أن تتجه إليها مسارات العمل القادمة في سبيل بناء قدرات بحثية وطنية وإدارة الممارسة البحثية بطريقة تضمن قدرتها على توليد بدائل الحل؛ فإن ما يتحدث به لسان حال الباحثين وذوي الاهتمام من عدم وجود جدية في استقطابهم أو وضوح آليات العمل في التعامل مع الكفاءات البحثية الوطنية ، يطرح اليوم الحاجة إلى دور أكبر تضطلع به الجامعات ومؤسسات التعليم العالي ويتبناه مجلس البحث العلمي في سبيل احتواء مؤسسات التعليم العالي وما بها من مراكز بحوث للخبراتالبحثية الوطنية، على إن من بين التحديات التي يواجهها البحث العلمي والباحثين الوطنيين يرجع جزء منها إلى عدم وجود اطار وطني واضح يوفر ضمانات لاستقطاب هذه الكفاءات بطريقة سلسلة ووفق إطار مؤسسي واضح، وإجراءات تتسم بالديناميكية والمرونة والتطور وفق مقتضيات الحالة ومتطلبات الاحتياج الوطني، لذلك فإن التوقعات بإحداث تحول نوعي تصنع القوة في هذا الملف لصالح استقطاب الكفاءة ، تتطلب المزيد من المراجعة للمعطيات والتشخيص الدقيق للتحديات والاشكاليات وبناء التشريعات المؤصلة لمسارات الدعم والحوافز واختصار الإجراءات لصالح استقطاب للكفاءة البحثية وتمكينها من المشاركة في الإنجاز ورسم ملامح التغيير والتحول في المنجز البحثي، وقراءة المسار الاكاديمي عبر الإبقاء على حضورها المستمر في المراكز البحثية والعلمية بالجامعات والكليات، لإثبات بصمات انجاز لها في واقع المنافسة الوطنية والعالمية، فإن مؤشرات النجاح التي حققتها الكفاءة البحثية العمانية من خارج مؤسسات التعليم العالي تفصح اليوم عن الحاجة إلى التثمير في هذه الكفاءات وإعادة تطوير اشتراطات دخولها في أروقتها، وتوفير مضلة احتواء وطنية لاستقطاب الكفاءة البحثية العمانية المتعددة الاهتمام والمجالات التي تطرقها في واقع الممارسة اليومية، ليتحول من مجرد مشاركة أو حضور أو تقديم ورقة عمل في مؤتمر تنفذه هذه المؤسسات، إلى سلوك مؤسسي مستدام ومشروع وطني قادم.
لذلك نعتقد بأن المطلوب تبني جملة من الحزم والمسارات التطويرية والتحسينية في هذا الشأن مثل: إيجاد قاعدة بيانات وطنية بمختلف فئات الباحثين الأكاديميين الوطنيين في مختلف المجالات السياسية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية والبرلمانية والتشريعية والأمنية وغيرها، والتحديث المستمر لها وفق مسارات دقيقه ومراجعات مستمرة؛ بالإضافة إلى إعادة مفهوم الوصف الوظيفي للموارد البشرية لوظيفة ” الباحث المتخصص في المؤسسات” ، الاقتصادي والاجتماعي والإداري والتربوي والنفسي وغيرها بالشكل الذي يتيح له تأصيل ثقافة البحث العلمي المنهجي المتخصص في نطاق عمله أو القطاع الذي يعمل فيه، وتوجيهه بشكل يقترب من الممارسة العملية، وأن يقتصر هذا الوصف على من يمتلك المنهجية العلمية والأدوات البحثية والقدرة على توظيف البحث واجراءاته أو يؤسس في حاملة هذا المسار ويبني فيه ثقافة البحث العلمي ومتطلباته ونجاحاته، إذ من شأن ذلك أن يقلل الشعور السلبي حول علاقة منجز البحث العلمي بالواقع، ويتيح تقديم أدوات قياس واستراتيجيات أداء تتناغم مع المواقف التنفيذية ، ناهيك عن شعور الفئات الأخرى من غير المنتسبين للمؤسسات الاكاديمية بان بحوثهم تلقى الرعاية والاهتمام والمتابعة من قبل المؤسسات البحثية والأكاديمية، وفي الوقت نفسه يعزز من ثقة المؤسسات في إسناد دراسة بعض القضايا الاجتماعيةوالاقتصادية وغيرها إلى التقسيمات المؤسسية والخبرات أو الباحثين بالمؤسسة، وفق إطار منهجي تحكمه قواعد البحث العلمي ، إفإن حضور الجامعات في هذا التوقيت سوف يعزز من الثقة في الباحثين ويكسب البحث المؤسسي المزيد من الرصانة والقوة المنهجية لاستخدامه في القرار.
هذا الأمر يضع الجامعات أمام مسؤولية سن التشريعات البحثية الداعمة لاستقطابها للكفاءة البحثية الوطنية ودمجها في أنشطتها البحثية، وعبر تلمس مسار القوة في المقترحات البحثية والمبادرات الاهلية والعمل على توفير الدعم الاستراتيجي لها ، والتوسع في استقطاب أكبر الشرائح المجتمعية في البحث العلمي ، والاستفادة من المبادرات البحثية والعمل على احتوائها وتوجيه مسارها بما يتيح للباحثين المزيد من التأطير لممارساتهم البحثية والتوجيه لها وإعادة انتاجهم البحثي بشكل يقترب من واقع الاحتياج الوطني ويجيب عن التساؤلات التي يطرحها الواقع المؤسسي والاجتماعي على حد سواء ، إذ من شأن هذه الموجهات أن تعزز من كفاءة المنتج البحثي وتضع الباحثين أمام حلقة اتصال مستديمة مع كل التحديثات والتجديدات الحاصلة في المنظومة البحثية، إذ من شأن ذلك أن يوفر المزيد من الفرص البحثية ويتيح مسار أكبر للدخول في البحوث المشتركة والقيام بدراسات أكثر رصانة ومنهجية تستخدم مناهج بحثية أكثر عمقا كالدراسات المسحية والاستراتيجية والتتبعية ودراسات الحالة، ويعزز من قوة النتائج التي تحققها هذا البحوث في ظل ارتباطها بالواقع وحضورها في المسار المهني للموظف، ويضمن العمق في نواتجها وفرص أكبر للاستفادة منها في صناعة القرار الوطني وبناء أرضية واسعة للعمل وفق أطر واضحة المعالم واستراتيجيات أداء تتناغم مع متطلباته.
عليه نعتقد بأن ما اتخذه مجلس البحث العلمي من أطروإجراءات تطويرية في السنوات الماضية برزت في الشراكات والتظاهرات البحثية لمجلس البحث العلمي وترجمها الملتقى السنوي للباحثين ، خطوة رائدة في سبيل استقطاب الكفاءة البحثية الوطنية خاصة في ظل تعدد مجالات جائزة مجلس البحث العلمي، والفئات التي يتيحها للطلبة والأكاديميينومؤسسات القطاع الحكومي والخاص في هذا الشأن، ويبقىالدور القادم على الجامعات في إعادة هيكلة وتوسيع المنظور البحثي وتحقيق الاستدامة فيه ،، فإن وجود مرجعية وطنية في البحث العلمي ، لا يعني ان تتنازل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي عن عملها واختصاصها البحثي؛ كما لا يعني أن يصبح البحث العلمي مجرد التزام شكلي اعتيادي تمارسه المؤسسات البحثية دون الاهتمام بما ينتج عنه في الواقع، كما لا يعني أن تقف مؤسسات التعليم العالي مكتوفة الأيدي عن الدخول في العمق البحثي وتبني مبادرات بحثية وطنية تأخذ بيد أبناء المجتمع ذوي الاختصاص والمهتمين بالبحث العلميوترقى بمهاراتهم وتسمو بأفكارهم البحثية؛ بل أن وجود المرجعية الوطنية ؛ فرصة للجامعات في الدخول بقوة في هذا المسار،والطريق الأفضل لنقل البحث العلمي من حالة الاستهلاكية إلى صناعة حلول وبدائل الواقع والنزول به في ميدان الممارسة ، وهو المدخل الذي يتيح للجامعات ومؤسسات التعليم العالي فرص أكبر في نقل هذا المسار للمجتمع من خلال استقطاب الشباب والخبرات والكفاءات البحثية العلمية وصقلها وتدريبها؛وإيجاد البرامج التدريبية النوعية والمساقات التدريسية التي تتيح لها صقل قدراتهم البحثية من خلال الدورات المتعددة المستويات والبرامج المتنوعة المتدرجة التي يمكن خلالها بناء قدرات وطنية وصقل الخبرات الحالية.
ويبقى توظيف الجهود الحالية وأرصدة النجاح المتحققة والمبادرات النوعية في هذا الشأن وتقوية جانب التنسيق والتكامل في تبني مسارات عمل واضحة تعمل على استقطاب الكفاءات البحثية بالمؤسسات الأخرى والخبرات الوطنية والتوسع في مجالات الاستفادة من انتاجها البحثي والدخول بها في شراكات بحثية منتجه تصنع القوة في المنجز البحثي وتسهم في بناء قدرات بحثية أكثر نضجا، وهنا يمكن أن توجهالجامعات مرحلة الدراسات العليا في عملية اكتشاف هذه القدرات وضمان تشجيع الباحث على استمرارية مواصلة مشوار نجاحاته وتميزه.. فهل ستعمل الجامعات الوطنية علتعزيز حضور هذه الكفاءات في واقع مشاريعها البحثية، وهل ستتخذ إجراءات محفزة للباحثين للدخول في هذا المجال، وهل تمتلك الجامعات جدية واضحة في طرق هذا الموضوع واستقطاب الكفاءات البحثية العمانية لتعمل جنبا الى جنب مع الأكاديميين والخبراء بالمراكز البحث المنتشرة بها؛ أم ستبقى حكرا وحصرا على منتسبي هذه المؤسسات دون غيرهم، عائمة تصارع الواقع وتبحث عن حضور لها في المؤسسات الاكاديمية؟