سعدية مفرح
بصوته الأجش، الدافئ، كان يغني لها كلما لوحت له بمنديل الوداع: ‘لا انت حبيبي ولا ربينا سوا.. وقصتنا الغريبة ضيعها الهوا.. انساني يا حبيبي.. انساني يا حبيبي.. انساني يا حبيبي’.
كان يعرف تماما أنها تحب أغنيات فيروز كلها، وأنها تذوب هياما بصوتها الحنون، وكم ضبطها وهي تضحك بعينين دامعتين مرددة احدى أغنيات مسرحية ميس الريم، وانها لن تمانع سماعها ليل نهار لو أتيح لها ذلك، وربما لهذا كان يلجأ إلى مقاطع مختارة بعناية من تلك الأغنيات، التي بدا لها أنه يحفظها كلها، وبما يناسب الموقف والمقام والظرف، كلما انقطع بينهما حبل الكلام والسلام، وكان هذا الحبل كثيرا ما ينقطع لأسباب واهية أحيانا، ولأخرى قاتلة، كما تصفها في بقية الأحايين.
“لا انت حبيبي ولا ربينا سوا”.
ساخرة كانت فيروز تغني لحبيبها، وكأنها تريد تأكيد المعاني المتأبية بعكسها، أو بضدها في سوق الكلام الذي يمكن أن يكون العشاق رواده ومستهلكيه الوحيدين، وللهدف نفسه كان هو يغني لحبيبته العنود كلما دار في سماء علاقتهما الغريبة ذلك القمر الأنثوي البغيض بتأثيراته الصاعقة على خريطة الكلام والوئام.
ولأن السخرية يمكن أن تكون اقتراحا جميلا، يمكن التراجع عنه عند الضرورة، لترميم ما تهدم في جدار الوصل، فقد ظلت البديل الأفضل عن الاعتذار والعتاب، وكثيرا ما لجأ اليها العشاق قبل أن يكتشف سرها الصغير مؤلفو الأغاني الفيروزية.
فبالسخرية وحدها يمكن أن نقول كلاما نعني عكسه تماما، وبها فقط يمكن للحبيب أن يتدلل على محبوبه دون أن يظهر ذلك لفضول الآخرين، ولكن هذا النوع من السخرية يحتاج إلى مهارة لا يملكها إلا القلة.
‘إنساني يا حبيبي.. إنساني يا حبيبي..’
ولكنه لا ينساها.. يعرف أنه لا ينساها. لن ينساها حتى لو نسيته ذات يوم، وربما لهذا كان يسرف في رسم تفاصيل ذلك اليوم المفترض كلما اختلى بنفسه وفكر بالفراق مستقبلا لعلاقتهما.. وكان يختتم السيناريو الافتراضي المتخيل بكلمة “مستحيل”.
لكن المستحيل يحدث أحيانا، وقد حدث.
افترق الحبيبان على وقع الألحان الرحبانية، ومرت سنتان كاملتان على تفاصيل تلك العلاقة المراوحة ما بين الفرح المفرط بعذوبته، والحزن المفرط في مرارته دون أن تفلح فيروز ولا أغنياتها العذبة في أن يظل المستحيل مستحيلا، وبقيت الأغنية الأثيرة الأخيرة، بمعناها الساخر اختبارا أثيرا وأخيرا أيضا، فهل تستطيع نسيانه؟ وهل يستطيع نسيانها؟
كانت فيروز تصرخ في وجه حبيبها وهي تتشبث به بكل ما أوتيت من قوة ترهب بها ذلك الخاطر البغيض في الرحيل الذي يداهم العشاق عادة كلما مرت في سمواتهم أقمار الخصومة المودية بالعلاقة إلى تهلكة النسيان، فتلمع نجمة للأمل يفرح بها هؤلاء العشاق في خضم الأغنية العاطفية الجميلة.
لكنه، على أي حال، كان يعرف أن الأغنيات لا تقرر مصائر البشر إلا نادرا.