د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة
يبدو أن سلوكنا الاجتماعي وممارساتنا الأخلاقية تتجه إلى مستنقع موحل، ومستقبل مجهول، محكوم بكثرة الصدمات والنكبات والتشوهات والسقطات، يتزايد في أحداثه المتقاربة التي تقشعر لها الأبدان ويندى لها الجبين وتتقزز من وصفها النفس السوية، جرائم في أبشع الصور وأقذر الأوضاع بدأت تتخلل في مجتمعنا الآمن وتتجافى مع قيمنا وأخلاقنا الأصيلة، لسنا هنا في محل تفاصيل لها أو سرد لأحداثها فمع أن حادثة جبرين بالداخلية ما زالت تلقي بأوجاعها على المجتمع إلا وتنذرنا حادثة الشرس بجنوب الباطنة لتفتح لنا أوجاعا جديدة ، قاسمها المشترك أنها حياة أسرة، وإن كان التعميم غير وارد لدينا وغير معترف به في قاموسنا الشخصي ، وقناعتنا وتفاؤلنا بأبناء مجتمعنا العماني تتجاوز نمو او استقرار هذه الفكرة لدينا فهي أقرب إلى سحابة صيف ولحظة خاطفة أرجو أن لا يكون لها مستقر في التفكير ومقر في تناولنا لقضايا الأسرة والأمن الاجتماعي؛ إلا أن جرائم القتل والحرق الأسري وزيادة انتشارها وتعدد أساليبها وأدواتها والتي تفجعنا بها واقعنا الاجتماعي بما لا يستصيغه فكر، ولا يقبله عقل أو تتقبله نفس يتنافى مع الذوق ويتصادم مع الخلق ويلتصق بالدنية من الفعل والتفاهة في السلوك والوحشية في التصرف مفتقرة لقيم الإنسانية وأخلاق الإنسان، ، وغيرها من الجرائم اللاأخلاقية الواقعة على الأعراض والابتزاز والاغتصاب والخيانات الزوجية مما تستقذره الطباع الصافية وتأنفه المشاعر الراقية والانفس الرضية، وتاباه الضمائر الحية مما يحصل في مجتمعنا العماني المسلم ، في حين أنها تمارس من شباب غررت بهم الأماني وأظلهم الشيطان، وأغرقهم في وحل الرذيلة وضعف المسؤولية ونفوق القيم وانحطاط الفكر، ليطرح علينا هذا الواقع تساؤلات عديدة حول من المسؤول عن هذه الجرائم ، ومن السبب في استفحالها واتساعها، ولماذا ما زالت تمارس هذه القضايا تباعا دون اعتبار بحوادث سابقة مماثلة بالرغم من فصل القضاء وسيادة القانون فيها؛ وهنا يتبادر للذهن هل للتعليم مسؤولية عما يحصل من فلذات الأكباد ومن هم في سن زهور الشباب أو غيرهم، ولما كان ضعف الوازع الديني والأخلاقي في قائمة المسببات المؤدية إلى مثل هذه الممارسات، فإن قناعتانا في التعليم وثقتنا فيه كونه الحلقة الأقوى في ميزان العدالة والاعتدال وترسيخ الوعي وبناء الضمير والوقوف على مسببات المشكلة وتأصيل الوازع الديني والأخلاقي مدخل لتأكيد هذا الدور.
من هنا ينطلق تناولنا للموضوع من محورية أثر الوازع الديني والأخلاقي في بناء مواطن منتج يعرف حقوقه وواجباته ومسؤولياته نحو نفسه وأبناء مجتمعه ووطنه ، فيوجه ذاته ويصقل مبادئه ويرقى بأخلاقه وينمى الاتجاهات الإيجابية لديه، ويمنحه فرص اكبر لقراءة الواقع في ظل وعي والتزام واخلاق وامتثال وصدق وامانه واحترام وتقدير وذوق ورقي وصفاء ونقاء ، ذلك أن هناك اتفاقا مجتمعيا على أن الإشكاليات الناتجة عن ضعف الممارسة الإنسانية والأخلاقية ونكوثها إلى مستويات دنيئة، إنما مرده إلى ضعف التكوين القيمي والأخلاقي والديني، ومساحات التباين الحاصلة بين استقرار هذه القيم والاخلاقيات في النفس والتعامل معها من خلال جملة المواقف اليومية، وتكريس سلوك الأنا والمصلحة الشخصية واتباع هوى النفس والانجرار وراء منغصات الروح وملهيات النفس، لذلك كان الحديث عن دور التعليم في تأصيل البعد الديني وغرس القيم والأخلاقيات يرتبط بغايات التعليم وأهدافه التي ينبغي أن تحظى بالمزيد من الرعاية والاهتمام ومنحها أولوية الحضور في واقع حياة المتعلمين، وأن يتخذ التدابير والإجراءات والاحتياطات التي تؤسس في ذات المتعلم قيم ومبادئ دينه وأخلاقياته، وهويته الوطنية وترسخ في نفسه معالم الخير والرشاد والصلاح والتقوى، وتعزز فيه البناء الفكري الرصين المهذب بمبادئ الدين وأخلاق الصالحين وسيرة النبيين عليهم وعلى رسولنا أفضل صلاة وأزكى تسليم، وما دام قد تحمل التعليم مهمة بناء النشء وتعليمه وتدريبه وصقله مواهبه واكتشافها، وما دام قد أمّن المجتمع أبناءه للمؤسسة التعليمية بكل محتوياتها لتقوم بدورها الأخلاقي والإنساني، وما دامت مبادئ فلسفة التعليم في أساسها قائمة على تأكيد التربية الوجدانية الايمانية والفكرية الصادقة للناشئة وترسيخ معالم الحياة لهم وتوفير الممكنات والضمانات التي تصنع منه مواطنا متميزا ناجحا صالحا قادرا على التعاطي مع المعطيات الحياتية ومواجهة التحديات وفهم ما يحصل في عالمه من أحداث وتراكمات وتناقضات وتباينات ؛ فإن ذلك يصنع من التعليم مدخلا استراتيجيا في ترقية هذا الوازع وتأصيله ، بحيث يتسم دوره في تحقيقه بالاستدامة والتنوع والعمق والمهنية والاحترافية، فهو ليس دورا ثانويا أو سلوكا عرضيا أو استراحة تستقطع من عمر اليوم الدراسي للحديث عن قيم الإسلام واخلاقيات المسلم ومبادئه .
ومع التأكيد على دور التعليم في هذا الجانب ، والتدابير التي ينبغي أن يتخذها في هذا الشأن سواء في مناهجه والممارسين التعليميين والمعلمين والأنشطة والممارسة التعليمية، والبرامج ، وأساليب التدريب والحوار والخطاب التعليمي، فإنه ينبغي أن يتجه الاهتمام إلى بناء القوة الفكرية والوجدانية فيها، بحيث لا تتعاطي مع المنتوج القيمي والأخلاقي المبتغى تحقيقه باعتباره سلوكا وقتيا أو ردة فعل أو نتاج لظرف معين أو مساحة تستقطع من زمن التعلم بحسب المزاج أو محاولة فهم الوازع الديني في غير محلة ووصفه لمجرد شكليات في الممارسة يتجه إليها المتعلم أو يتصّنعها في سلوكه القادم أو يمارسها ليظهر للمجتمع أو لوالديه تحققها فيه، بل التزام تعليمي أصيل وسلوك منهجي قويم، واستراتيجيات في الأداء الفعال، وموجهات في العمل النوعي، فيتعاطى التعليم معها بكل مهنية، ويعيد انتاجها في سلوك المتعلم بحسب قوة التحديات والمغريات والمثيرات الخارجية، لتجنيب المتعلمين مساوئها، وتعزيز نواحي الخيرية في تجنبها، وامتلاك أدوات المعالجة والتصحيح والتشخيص ، فيكسبها هويته القيمية والأخلاقية ويضعها أمام مراجعات مستمرة ، لتتفوق ذاته وتنمو مساحات الأمان والوقاية لدية ، حصنا له يمنعه من الانحراف، ويسمو به فوق الخلاف ويبعده عن الشطط ومزالق الريب، ومعنى ذلك كله أن دور التعليم في تأصيل الوازع الديني لا يعني زيادة في كم المحاضرات الدينية أو بتكثيف المواعظ والنصائح وتكرار ترديدها أو بأن تصبح المدارس محط ارتياد الدعاة وأئمة المساجد وخطباء الجمعة، بل باستلهام معاني الدين وقيمه في السلوك التعليمي، وترسيخ مبادئ الدين وقيمه في الخطاب التربوي، وتعميق الشعور لدى المتعلم بدور الدين وقيمه وأثره في الحياة، مع المحافظة على سقف نجاحاته الأخرى في الأنشطة والبرامج والمواهب وغيرها، فيصبح المنظور الديني الذي يؤصله التعليم، إنما يرتكز على بناء مسارات واضحة في الأداء التعليمي التي تقترب من المبادئ والأخلاقيات والسلوكيات لتتجه إلى عمق الشعور الذاتي لدى المتعلم بأثرها عليه واستفادتها منه مستقبلا، فتصبح رديفه في الممارسة، وطريقه في التوجه، والمساحة التي يستقي منها دافع الالهام والتميز ، والطريق الذي يتوجه به لصناعة ممارسة نوعية تخطو بها إلى الأمام وتؤسس فيه مسيرة انجاز لا يخفت بريقها أو يبهت صاؤها.
وعليه فإن تحقيق ذلك مرهون بجودة التعليم ذاته وقوة المبادئ والممكنات التي يؤسسها في حياة المتعلم، والموجهات الفكرية والأخلاقية والايمانية التي بينيها في ذاته، والحرية المضبوطة التي يمنحها للمتعلم في مراقبة الذات وسمو الضمير وإدارة السلوك، وعندما يمتلك التعليم مكونات تصحيح السلوك، ويؤسس في المتعلم إعادة انتاجه بطريقة يستشعر فيها موقفه ومكانته ودوره في الحياة؛ فإنه بذلك يصنع مرحلة تحول في حياة المتعلم تنطبع عن مستوى التزامه الديني وارتباطه القيمي وسموه الأخلاقي ونموه الخلقي، فلا جرائم، ولا اتجاه الشباب إلى ممارسات لا أخلاقية ، لأن التعليم يربطها برابط الدين، و يهذبها بأخلاق المرسلين ويعصمها من الخلل ويجنبها التيه، ويؤسس فيها مسارات الخير ومنابع المعروف، ومع كل ما أشرنا إليه يبقى التعليم جزءا مهما من معادلة بناء الأنسان ورسم ملامح التميز الديني والأخلاقي في حياته، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تهميش دور التعليم في المسألة، أو محاولة القاء المسؤولية على غيره فقط، فمع التأكيد على أهمية دور الوالدين والاسرة والمجتمع ومؤسسات التربية والتنشئة ومكوناتها المختلفة ودور المؤسسة الدينية والعلماء ومؤسسات الدولة المهنية والأمنية، والاعلام في تأصيل الصورة الاخلاقية والقيمية والدينية المتوازنة في سلوك المتعلم، إلا أن التعليم يبقى المعادلة الأقوى في التعاطي مع الإشكاليات والتحديات الاجتماعية التي يعيشها المجتمع وجيل الشباب، لما يمتلكه من صلاحيات في رسم ملامح القوة في سلوك المواطن في مواجهة هذا النزوغ القيمي، والسقوط الأخلاقي الحاصل في سلوك البعض.
ويبقى على التعليم في ظل هذه المسؤولية أن يعيد فلسفة عمله وبوصلة اتجاهه وتصحيح الممارسة التعليمية، وحالة الانحسار الحاصلة في دور المناهج والممارسين وأهداف التعليم وغاياته في تعظيم القيمة الأخلاقية والدينية في حياة الأجيال وبناء ذواتهم، ونعتقد بان ما يحمله التعليم من فرص وممكنات وأدوات واستراتيجيات ومساحات أوسع وفرص اكبر، كفيله بصناعة متعلم يمتلك هذه الرؤية ويعي هذه المسؤولية ، فهل سيقرأ التعليم في ما يحصل من انتكاسات أخلاقية تبرز حالة الانفصام في المجتمع من مشاهد جرمية متكررة؛ مرحلة عمل يعيد فيها مساراته كأحد مداخل الحل وأهمها على الإطلاق؛ أم ستظل الممارسة التعليمة في مفترق طرق بعيدة عما يحصل في المجتمع من أحداث، تصنع ثقافة الخوف والقلق ، إن لم يكن تمتلك أدوات الأمن والاستقرار وموجهات الأمان ؟