فضاءات

الشاعر العربي الكبير “أدونيس” يكتب لـ”أثير” : هل الكتابة العربية السائدة هي أيضاً حجاب ؟

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

هل الكتابة العربية السائدة
هي أيضاً حجاب ؟


I

كان بعضُ أسلافنا يقول: « الشاعر هو من يشعر بما لا يشعر به غيرُه ». وفي هذا القول ما يمكن أن يؤدي، منطقياً، إلى تعريفٍ آخر للشعر غير ذلك التعريف التقليدي السائد، والقائل: « الشعر هو الكلام الموزون المقفّى الدّالّ على معنى ».

يشدد التعريف الأول على الفرادة والتفرّد، فهو « داخليٌّ » ينبع من داخل الكتابة الشعرية. أما الثاني فيشدّد على المُشترك العام، فهو « خارجيّ » – ويمكن، تِبعاً له أن نعرّف الشاعر بأنه « الشخص الذي يشعر بما يشعر به غيرُه »، على النقيض من التعريف الأول.

تكمن في هذا التناقض مشكلات وقضايا كثيرة، شعرية واجتماعية وفكرية تحتاج إلى جلاءٍ، وتعميقٍ، وتوسيع.

II

أحب أن أقف هنا عند مسألة الفرادة والتفرّد، وأن أطرَح للنقاش رأياً يندرج في سياق التساؤلات الحديثة حول الكتابة الشعرية. فحين أقول « فرادة » أو « تفرّد » أعني التفكير والإهتمام بما يكون استثنائياً، وخارج القواعد الفكرية المشتركة العامة، خصوصاً الإيديولوجيات والمعتقدات، أياً كانت. دون ذلك، لا تكون الكتابة إلا تزييناً للأنفاق القائمة، ولا تفتح أيَّ أفق للنظر والتأمل والبحث إلا في مدار هذه الأنفاق ذاتِها. وسوف تكون بطبيعتها اتهاماتٍ وإداناتٍ، تعليقاتٍ وتصنيفات، شرحاً وتبشيراً، امتداحاً للذّاتِ وهجاءً للآخر المخالف أو المختلف. وسوف تكون، إذاً، في المحصّلة، جزءاً من الإعلام السياسي الإيديولوجي، إقصاءً وتشويهاً، أو إجتذاباً وتجميلاً. وفي هذا كله ستكون هذه الكتابة حجاباً على الواقع، وعلى الحقيقة، وعلى الإنسان.

III

الكتابة القائمة على الفرادة والتفرّد، شيءٌ آخر. فهي، بدئياً، لا تنطلق من التزام مسبق، سياسياً أو إيديولوجياً. فمثل هذا الإلتزام حصارٌ مضروبٌ على الحرّية بأبعادها كلّها. خصوصاً أنها كتابة الوجود، لا كتابة السياسة وحدَها. السياسة جزءٌ من الوجود، وهذا الإلتزام يجعل الوجودَ جزءاً من السياسة.

هكذا تحرص هذه الكتابة على أن تكون رائيةً، وجديدةً وجذريّة. وهي إذاً، تحرص على المواجهة الكيانية الشاملة للأسس التي تقوم عليها الحياةُ الإجتماعية السياسية وثقافتها ومؤسساتُها.

وعلى الكاتب هنا، تِبعاً لذلك، أن يواجهَ، بالطرق الفنّية الخاصّة، كلّ ما هو ديني، سياسيّ، إجتماعيّ، جنسي، فكريّ. ولا يصحّ أن تكون هذه المواجهة متكئةً على منظوماتٍ إيمانية مسبّقة، أو على معتقداتٍ خاصّة، وإنما يجب أن تنبعَ بحرية من أعماق الكاتب ومن تجاربه الحيّة التي يعيشها. هكذا ينتج رؤيته الخاصّة ومدلولاته الخاصة.

لا يمكن الشك في أن الإلتزام الإيديولوجيّ السياسي يطمس ذاتية الكاتب أو يضعف خصوصيّتَها، وهذا لا يعني القربَ إلى الموضوع أو الواقع خلافاً لما يُظنّ، وإنما يعني، على الأرجح، العكس: من تنطمس ذاتيتَه، لا تعود لديه حقيقةٌ إلا الحقيقة المفروضة عليه، مُسبّقاً.

ثمّ إن اللّا إلتزام هو أيضاً مواجهة للواقع، للحاضر، للراهن السائد، وهو كذلك يتضمن موقفاً، ومجازفةً، ورهاناً، وعلاقات. فاللا إلتزام إلتزامٌ آخر، بأشكال أخرى، واللا سياسة هي في الكتابة سياسة خارج الإيديولوجيات.

IV

هل نحتاج، في هذا الأفق، إلى الشعر؟ ولماذا؟ جوابي المباشر هو: نعم. وعندي سببان: الأول هو أنّ الكينونةَ العربية أفصحت عن ذاتها، بدئياً، بالشعر. دون أيّة مسبّقاتٍ: الذات في مواجهةٍ مباشرةٍ مع الوجود والعالم.

الدين، الفلسفة، العادات والتقاليد، إنما هي معتقدات: والمعتقدُ حجابٌ على الذّات من حيث أنه يغلقها عليه وحده، دون غيره. ولا تُخترَقُ الحُجَبُ إلا فنياً – بالشعر على الأخصّ.

ومن هنا يجيء السبب الثاني وهو أن الشعر أصدقُ إفصاحاً عن الأزمة، في مُختلف تجلّياتها، لأنه الأعمق إحساساً بها. فهو لا يُحسُّها بالتأمل، وحده، وإنما يحسها بالجسد نفسه. وهو، إذاً، لا يتخيلها، وإنما يعيشها. والشأن هنا ، في الشعر، كمثل الشأن في الحب: تجربة حية، لا تجريد وتنظير.

ربما لهذا نجد الشعر دائماً في أزمة: مُحارَباً،أو مُهمَّشاً أو ملعوناً. بل نجد أنه دائماً مهددٌ بالزوال، لأنه لغة الكشف عن الخطر، ولأنه فن الخطر – دائماً على طرف الهاوية. دائماً يحاول موجُ العالم، الديني – الإيديولوجي خصوصاً، أن يجرفه وأن يطمسه. هيجل استعجل هذا الزوال، قائلاً: « الفنُّ شيءٌ مضى أو انتهى ». اللا إلتزام يعزّز الكفاحَ من أجل تهديم الجدران التي تعلو في وَجه الشعر. والجدارُ الأول تقيمه المعتقدات بوصفها جواباً قاطعاً، وشاملاً، ونهائياً، في حين أنّ الشعر سؤالٌ متواصلٌ وجذريٌّ، ودائم.

في ضوء هذا كلّه يحُقُّ للقارئ، عربياً وأجنبياً، أن يطرح على الكتّاب العرب المعاصرين خصوصاً هذا السؤال: هل الكتابة العربية المعاصرة حجابٌ من نوع آخر على الواقع والحقيقة والإنسان؟

*

*

شرارة

إنّها الذّكرى:

​كأسٌ تنكسرُ في يَدِ الزّمن،
​ويسيل ما فيها بين أصابعهِ.


من قلبِ ما مضى
تخرجُ ظلالٌ في صوَر فُرسانٍ
يحملون على ظهورهم
سُروجَ التّاريخ.



خوفٌ كوكبيٌّ يضعُ خُفَّهُ
بين يَدَيْ أمِّهِ الشّمس،
ويسيرُ حافياً – راقصاً.
بطيئاً، بطيئاً
يعبرُ المدنَ
ويسلّمُ على الشوارع.




هُوذا،
يصعد على سُلّم اللّيل،
متأبّطاً كتابَ الفراغ.


Your Page Title