أثير – ريما الشيخ
منذُ العصور القديمة كانت الكتابة وسيلة التفاهم البشري وهي التي تعبر عن مكنونات الإنسان وحالاته التي يمر بها، فكان تدوينها له من الأهمية لحفظها من عوامل الطبيعة المؤثرة ، ففكر بنقشها على الصخور فسُميت بالكتابة الصخرية.
والكتابة الصخرية تُعدّ أحد أبرز المعالم الثقافية في عـُمان لعدة اعتبارات من أهمها؛ انتشار هذه الظاهرة في كثير من مناطق السلطنة ، وتغطيتها لكثير من أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، كما أن مداها الزمني اتسع أيضًا لفترة طويلة امتدت منذُ بداية استقرار العرب فيها قبل الميلاد وصولًا حتى القرن العشرين الميلادي.
وربما يكون من الأسباب التي ساعدت على انتشار هذه الظاهرة وجود الرسومات الصخرية كنوع من أنواع التعبير لدى الإنسان العُماني في فجر التاريخ، وعدم توافر وسائل الكتابة بالشكل الذي عرفت عليه لاحقًا .
ومما تجدر ملاحظته فيما يخص الكتابات الصخرية في السلطنة وخصوصًا في وادي بني خروص، أنها شغلت حيزًا كبيرًا يربو على 30 كيلومترا بدءًا من منطقة طوي موسى والرجمة في أقصى شمال العوابي ومرورًا بقرى الوادي من الهجير إلى ستال والهجار والمسفاة وانتهاءً بالعلياء الملاصقة للجبل الأخضر، وهذا ما أكده الباحث الدكتور صالح بن عامر بن حارث الخروصي في بحثه الذي نشرته هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية عام 2014م حيث قال: شغلت الكتابات الصخرية حيزًا زمنيًا طويلًا، إذ وجد نموذج لخط المسند السبئي القديم قبل أن تستقر اللغة العربية على أبجديتها المعهودة، ثم تواصلت الكتابة في العصر الإسلامي واستمرت حتى مطلع القرن الرابع عشر الهجري / العشرين الميلادي. وبهذا يمكن وصفها بأنها كتاب تاريخي وثائقي مفتوح.

كما ذكر الدكتور صالح الخروصي فإن الكتابة كانت تتم بما يسمى محليًا طريقة “القلع” أي غرز أداة الكتابة أو القلم المعدني على سطح الصخرة بواسطة أشخاص كانوا عادة ممن يتقنون الخط العربي وفنونه. ومع أن هذه الطريقة كانت تكلف جهدًا ووقتًا طويلًا إلا أنها كانت تكفل بقاء الخط فترة طويلة من الزمن يقاوم فيها عوامل التعرية الجوية كالأمطار والرياح والحرارة والأتربة. وكان الكتبة يتخيرون الصخور البعيدة عن مجرى الأودية أو تلك التي تكون في اتجاه لا يتأثر بجريان الأدوية خشية من تأثير الماء عليها.
وقد استُخدم نوع مميز من الصخور عرف محليًا بالصلف ويسمى علميًا بـ “الستشست” المتحول في عملية الكتابة، والذي ينتشر في وادي بني خروص بالتحديد، فقد لوحظ أهمية هذا الحجر من ناحية وجوده في الطبيعة على شكل ألواح قليلة السماكة فعمد إلى استخدامها في حياة الإنسان القديم وتقطيعها لعمل بوابات على قنوات الأفلاج للتحكم في الحصص المائية للمستفيدين، وكذلك عمد إلى استخدام هذا النوع من الصخور القاسية كجسور على القنوات المائية لتسهيل عبور الناس وكذلك استخدم هذا النوع من الصخور في عمل الأرضيات للمنازل.

يقول الباحث والكاتب حارث بن سيف الخروصي خلال حديثه لـ”أثير”، بأن الإنسان القديم قد لاحظ بأن هذا النوع من الشواهد يمكن نحته بسهولة مقارنة بباقي الصخور، فعمد إلى استخدامه في عمل تحف فنية كشواهد للقبور، لكن الاستخدام الأبرز لهذا النوع من الصخور هو استخدامه في التعليم قديمًا خاصة مع وجود مادة الطبشور وتعرفا محليا في وادي بني خروص ( بالرخام ) حيث كان الطلاب في مدارس القرآن الكريم يقومون بجمع الطبشور من بعض المواقع والتي تأتي بألوان مختلفة مثل القرمزي والأحمر والأبيض وغيرها، وتختلف الألوان باختلاف الشوائب الموجودة في حجر الطبشور، و قد شوهد الطلبة في حقبة الثمانينيات والتسعينيات يستخدمون هذه الألواح في مدرسة الهجير الملاصقة لمسجد الغمامة المبني في القرن الثاني الهجري والذي بناه الإمام الوارث بن كعب الخروصي وهو ثاني إمام في عمان بعد اعتناق عمان للإسلام في بدايات القرن الأول الهجري .
ويؤكد الباحث أن وجود هذا النوع من الخامات الطبيعية بذلك الوقت كان عاملًا مهمًا في بعث التعليم، حيث وجد الطلبة وسائل تعينهم في تعلم الكتابة وحتى في التلوين والرسم فوجد الكثير من الشعراء والعلماء والفنانين، وكذلك من الفلاسفة الكبار الذين تأثروا بوجود هذا الحجر الشيخ جاعد بن خميس وهو عالم كبير وقائد سياسي ولد في نهاية عهد اليعاربة وعاش في بداية فترة البوسعيد وقد ذكر الشيخ ناصر بن جاعد بأن والده ألف كتابا عن الألواح الحجرية أي إنه استخدم الحجر بدل الورق ولكن للأسف فقد كتابه.

وأضاف: هذا النوع من الأحجار الصفائحية استخدم في أماكن كثيرة في العالم ولذات الأغراض أيضا، فاستخدم في مدينة أربا في ألمانيا حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية ويطلقون عليه اسم ( شيفر شتاين ) وفي المملكة المتحدة يسمى (سليت ستون ) ومنه اشتق اسم الصبورة في اللغة الإنجليزية.
ودعا الباحث والكاتب حارث بن سيف الخروصي إلى ضرورة توثيق هذا النمط من وسائل التعليم في عُمان والعالم، خاصةً مع التغير الكبير الذي تشهده وسائل التعليم بل حتى يتفاعل الإنسان مع بيئته، فقديما كان الإنسان يحصل على معظم مستلزماته من بيئته المحيطة ويتفاعل معها في توازن كبير، لكن ما نشهده في العصر الحالي من استنزاف لموارد الكوكب مما يهدد التوازن البيئي الذي سينعكس سلبا على الإنسان نفسه .

أما الدكتور صالح بن عامر بن حارث الخروصي فأكد ضرورة إيلاء الكتابات الصخرية اهتمامًا خاصًا من قبل الجهات المسؤولة لأنها تشكل مصدرًا مهمًا للتاريخ المحلي العماني ورافدًا للمصادر التقليدية لا سيما في حالة تضارب المصادر، أو عدم تطرق المصادر التقليدية للأحداث التاريخية في فترات متعددة مما قد يساعد على إماطة اللثام عن بعض الجوانب الغامضة في التاريخ المحلي ، ويقدم للباحثين مادة علمية على جانب كبير من الأهمية.
واليوم اختلفت الكتابة بأسلوبها، لكن يبقى الفضل لتلك الأيدي التي حفرتها على الصخر، لتستمر وتستقر على الورق كما نراه اليوم.