كتب : محمد أحمد النهاري اليافعي
العاشر من يناير من العام الجديد كان قاسيا صادما ليس له مثيل ! ، عشنا في مثله من سنوات مضت متعةَ متابعة الإطلالة السامية على شاشات التلفاز من المهرجان السلطاني لسباق الخيل.
وأصدق القول؛ إنَّ المتعة لا تكمن في شغفنا بالرياضة ذاتها والتي أكاد أجزم أن محبيها قلة، وإنما شغفًا بتفاعلات السلطان؛ ابتسامة في لحظة، تلويحة في أخرى ، نظرة على الدوربين في تارة كانت تشكل متعتنا.
تسمرّنا على خطب الراحل العظيم من سيوح عمان الشاهدة على حكمة، وصدق، وعزيمة رجل لا تلين. وتهاتفنا على الشيوخ لمعرفة ما دار مع السلطان وقد حجبته الموسيقى عنا ! ، العاشر من يناير ماذا أصبت به عقولنا من تيه لم نتجاوزه رغم القبول بقضاء الله وقدره، وأربعون لاحقة من حدادٍ مؤلمٍ وأعلام البلد وقد طأطأت على رحيل من قبّلها قبل ٤٩ عاما في السابع عشر من ديسمبر لعام ١٩٧٠م.
وأي قبلة هي لمن اختار تفاصيل ألوانه ودلالاته حتى يُرفع شامخًا معبرًا عن عظمة عُمان وموحدًا الأرض والإنسان حوله.
أربعون يومًا والقلب منفطر، والعقل غارقٌ ومتأثرٌ، والرثاء نسمعه ونقرأه والحيرة هي ذاتها وكأن الرثاء يرثي نفسه فلم يوفِ ولم يواسِ ولم نستشعره.
الأمطار تنهمر علينا وتذكرنا باستدلال المربي الراحل بها دلالة على الصبر، ثم نيل ما هو مستحق، فالمطر ينزل قطرات أولا ثم ينهمر، والرياح تهب علينا وتركز نظرنا على الأعلام وهي حزينة ترفرف وتذكرنا بالمغفور له، كيف حرص على علوه وشموخه وثباته من هبوب الحروب والشقاق والفتن.
نمضي في الطرقات وتأبى إلا أن تذكرنا فأشتم رائحة القادحات، وأنصت لنغمات حوافرها، وأسمع أهازيج المواطنين على جانبي الطريق ، والورود تنثال علي نثلا إلى أن أصل لبوابة قصر الحصن العامر بصلالة.
وأمضي حتى أقف عند بوابة القصر وأرى عليها الحزن وهي مسدودة بعدما شرعت لزوامل القبائل القادمة فرحا وولاءً للسلطان سنوات وسنوات، لا زالت الموسيقى الصادرة من البرج مع كل ساعة تذكرنا بفقيدنا المتذوق وأصبحت ثقيلة يكاد المرؤ يغلق مسامعه بعد أن كان لها رونق ليس له مثيل مع هدير بحر العرب وهيجانه، كانت متفردة تلك المعزوفة وأضحت الآن مؤرقة ، ما إن أصحو من سراب ذاكرتي إلا بشيء يُوقظني إلى سرابٍ آخر جميل.
مروري اليومي على منطقة السعادة الذي استلهم اسمها السلطان قابوس طيب الله ثراه مرورا بطريق قصر الرباط الذي يتملص من ميدانه الدان ونانا ويذكرني بالحفل البهيج الذي رعاه الرمز الخالد في عام ١٩٩٧م .
ومركز السلطان قابوس للثقافة والترفيه على الضفة الأخرى الذي نفذ بمكرمة سامية وصار معلما ثقافيا يخلد اسم الراحل المثقف ، وأعتلي جسور السعادة وأتذكر افتخار جلالته بطرقات وعبارة ” حقيقة في هذا البلد لدينا شبكة طرق لا تضاهى”
ما إن أدخل المبنى الجديد لقسم دراستي بالكلية التقنية بصلالة وإلا أتذكر صور الطلبة تحت أشجار السدر والغاف وكلمات الفقيد البار التي تتسلل إلى مسامعي أربعين نهارًا “سنعلم أبناءنا لو تحت ظل الشجر” ! .
تصادفني سيارة السوزوكي على الطرقات فأتذكر صورة السلطان وهو يقودها على الطريق الترابي المؤدي لبيت المعمورة وخلفه المواطنون وإلى جانبه الفريق أول متقاعد علي بن ماجد المعمري وتلك اللُفة، السعادة، الأريحية، البساطة التي تنعكس من الوجوه متوجهين للبيت الذي يحوي البساتين والأزهار الذي رعاها واهتم بها الراحل صائن البيئة أيما اهتمام ، كيف حال تلك الأزهار ؟ كيف حال تلك الأشجار المثمرة التي طبطب بيديه الكريمتين عليها ؟ .
في أربعين عمان الثكلى ما عادت أسطورة “صوت للنهضة نادى” توقدني حماسا مع كل بيت ترقرق الأعين وتنبت وراء كل دمعة أخرى وتتجلى المشاهد من مخيلتي المشبعة بالمشاهد السلطانية الخالدة “صوت للنهضة نادى هبوا جمعا وفرادى يا أبناء عمان الأجواد ” يذكرني بذلك الصوت المشب ذي العزم والهمة في الخطاب الأول بعد توليه مقاليد الحكم إلى شعب يرزح على ويلات الفقر وغياهب الجهل و أصفاد الحروب وشرذمة المهجر بهمة وعزيمة، قائلا لهم ” سنعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبلٍ أفضل وعلى كل واحدٍ منكم المساعدة في هذا الواجب ” ، والبيت الذي قيل في ١٩٧١م وكأنه قيل اليوم رثاءً في الراحل مؤسس النهضة ” في ثلاث وعشرين يوليو قد حطم اصفادا، وأزاح ظلام عنا ولوانا بالمجد تهادى” يا لعمق تلك الأسطورة الشعرية المغناة عشَّشت في ذاكرتنا فهي مدحٌ ورثاءٌ وتصويرٌ مذهلٌ للنهضة.
في اليوم الثلاثين على مرقدك سارت حشود أبنائك إلى مدارس النهضة وقد تملّكت الحيرة الناشئة والسؤال كيف لنا ألا نهتف بحياتك ؟ والشباب يهجسون بهذا الفقد وكيف لهم التعايش معه فيتذكرون من فقدوا في العلم المنكس وصورة المعلم الراحل المنتصبة على جدران الصف وأقواله الخالدة في اللوائح والممرات وتستمر تساؤلاتهم، كلٌّ على مرحلته العمرية والفكرية وتنتاب كل واحد منهم تلك الهمسات الداخلية وتلك الصورة الذهنية التي عشناها قبلهم عن المعلم الأول وتلك الكلمات التي كان لها الأثر العميق في نفوسنا ونحن على مقاعد المدرسة، كيف كان ذلك اليوم غريبًا وشاحبًا عليهم، حمدت الله بأنني لست معهم أو منهم.
جبال ظفار الشماء التي لها نصيب من العزاء أشجارها ذات العلو تبث لي ذكراها وافتراش الملهم الراحل الأرض مع وزرائه تحت ظلها وجلسات الغداء والقهوة برفقة ضيوفه ، (خدور ) النضال تسجل شهادتها على بسالة وشجاعة البطل الراحل مع جنوده البواسل
الذي قال عنهم ” أولئك الرجال الذين نذروا أنفسهم ليبيعونها رخيصة وروضوا صدورهم لتكون درعا منيعا لهذا البلد “، وقد صارت اليوم كهوف الاطمئنان والاستمتاع وقد امتلت هدوءًا وسلاما بعد أن كانت مليئة بضجيج الحروب و الشقاق.
سرت لأطمئن عن حال سيح الخيرات بولاية ثمريت حاضن الجولات السلطانية بظفار، ورأيته منتحبًا يقلب وجهه ذات اليمين وذات الشمال حائرا متسائلا، أما لنا لقاء آخر؟ أما لنا خطاب آخر؟ أما لي واحة تلبث بعد اليوم ؟.
حقا هذا الفقدُ كبيرٌ وآثارُهُ عميقةٌ على النفس وذكرياته أعمق وذاكرته أرسخ و شواهده عديدة، كيف لنا أن نرثي ٥٠ عاما !؟ ، كل شبر من عُمان تفيض منه ذكرى للسلطان الراحل قابوس بن سعيد بن تيمور المعظم طيب الله ثراه ومن نعزي وكلنا أهل العزاء.
لا تزال مسامعنا ثقيلة فتسبق الخبر بحفظه الله ورعاه وتنتبه على طيب الله ثراه ولا تزال الألسنُ معقودةً مع كل ذكرِ له وتخرج الحروف منها ثقالا، ولا تزال الأعين تنظر إليه نظرتها الأولى..
أتذكر هواجس الوداع التي رافقتني مع كل حالة صحية يمر بها والدنا الراحل وكيف كنت أتجاوزها تفاؤلًا ودعاءً، اليوم وقد نالت مني وأدبت علي ٤٠ يومًا، تراودني خيالات عن شعور المؤسس الراحل وهو يعيش أيامه الأخيرة، والزرع أمامه وقد ثمر وما كان يشغل باله في بيته الصغير في صلالة قبل أن يتولى مقاليد الحكم قد أصبح من الماضي وما وعد به قد تحقق وعمان التي أرادها منذ اليوم الأول قد صارت؟! ،
رحم الله من أفنى حياته خدمةً لعمان وأهلها مولانا جلالة السلطان قابوس بن سعيد، اللهم وأجزه خير ما جزيت سلطانا عن شعبه يا ذا الجلال والإكرام، وما نقول ختاما إلا ما قاله الصابرون “إنا لله وإنا إليه راجعون”.