الشيخ صالح الربخي يكتب: أخلاقٌ وصفاتٌ اشتهر بها السلطان قابوس بن سعيد

الشيخ صالح الربخي يكتب: أخلاقٌ وصفاتٌ اشتهر بها السلطان قابوس بن سعيد
الشيخ صالح الربخي يكتب: أخلاقٌ وصفاتٌ اشتهر بها السلطان قابوس بن سعيد الشيخ صالح الربخي يكتب: أخلاقٌ وصفاتٌ اشتهر بها السلطان قابوس بن سعيد

الشيخ صالح بن سليم بن صالح الربخي

جاء السلطان قابوس لحكم سلطنة عمان وهو شاب يافع ، قضى في ذلك طيلة عمره، والذين عملوا معه عن قرب ظلوا مطبوعين بشخصيته المميزة ، وسلوكه المستقيم ، وأخلاقه الدمثة ، عرف بها ، وعرفت به ، مشاهدة حية في واقع حركته وسلوكه ، وأصبح بهذه الأخلاق ذا شهرة عالمية ، ومثلا يحتذى ، في كل أنحاء العالم ، رحمه الله تعالى.
ولو أردنا أن نعدد الجوانب التي تتجلى فيها قيم الأخلاق والقدوة الحسنة بتفاصيلها لاحتجنا إلى أوقات طويلة وسطرنا صفحات كثيرة.


من الصفات التي اشتهر بها جلالته أنه ” صادق مع نفسه ومع الآخرين ” ، وصفة الصدق هي جماع كل الفضائل والمكارم. وكان – رحمه الله – يمثل مبدأ القدوة الحسنة في السلوك والأخلاق ، في كل مفاصل حياته ، الخاصة والعامة ، وبعيدًا عن التصنع والتكلف ، وليس ذلك لاعتبارات بروتوكولية أو رسميات يفرضها الموقع الذي هو فيه ، وإنما لأنه تربى عليها ، واستقاها من التربية التي حظي بها ، ومن العلماء الذين تلقى منهم تعاليم الدين الحنيف ، ولأنه ولد وترعرع على أرض عمان التي لا تنبت إلا طيبا ، فذابت في بوتقته حيث جعلت منه سلطانا ورث مجد أبطال عمان ، أئمة وسلاطين ، كابرا عن كابر.

وهو قدوة في التزام الهوية العمانية ، ومبادئ الدين ، والاعتزاز بالانتماء إلى عمان وحضارتها التليدة ، وإعادة مجدها الغابر ، وحب أهلها والإخلاص لها ، والحرص على أمنها ، واستقرارها ومصالحها ، وكان همه هو أن تقطع عمان مسافات أطول ، وبسرعة قصوى على طريق نهضتها ، لتلحق بالركب العالمي، وتختصر طريق الوصول إلى تحقيق الأهداف التي رسمها لها ، وأن تعود كما كانت عمان؛ تنشر الحضارة والعرفان في شتى بقاع المعمورة .

وكان – رحمه الله – يعمل بصمت ، مقلا في كلامه ، وفي مقابلاته ، وظهوره على وسائل الإعلام محدود جدا، وهو يرى في الصمت محاسن وفضائل قد لا تكون في الكلام ، ويرى أن للكلمة مكانتها، وموجباتها، ومسؤوليتها ، التي لا يجوز أن تزيد في الدلالة أو تنقص في المعنى ، أو يستحيل تنفيذها.

وهو إن قال أوجز، وإن تحدث أفهم ، يمتلك لغة عربية واضحة وجميلة ونطقا بينا ، يربط القول بالعمل ، ويفصل القول على قدر العمل. وكان – رحمه الله تعالى – لا يحب المجاملة ، ولا يقبل الخطأ ، ولا يسكت عنه ، ويعمد إلى الصراحة على ما فيها من كلفة ، والذين يتعامل معهم يدركون أن صراحته هي نابعة من ذاته ، وتمثل حقيقة شخصيته ، وطريقة عمله .

يقول رأيه الذي هو رأي بلده حتى في أصعب الظروف والمنعطفات ولا اعتبار عنده للغة السياسة والدبلوماسية إذا كانت على حساب مبدأ أو قضية.

وقابوس – رحمه الله – كما عرفه الكثيرون يتمتع بذكاء حاد وقوة ملاحظة شديدة وحب للعمل منقطع النظير، وقد تميز بذكاء حاد وقدر فائقة على الإقناع ، وكسب الاحترام ، وشد الجمهور إلى شخصه ، بصدق كلامه وبلاغته ، وعن ملاحظاته العديدة التي تصيب حياة الناس ، وتشير إلى الخيارات الصائبة .

وقد كان ذكاؤه باديا وملموسا في مفاوضاته المبكرة حول ترسيم الحدود العمانية مع أكثر من دولة ، مما يدل على أنه كان يستشرف المستقبل ويقرأ مسار المنطقة والعالم قبل أن تقع أحداثه .

وفي حلم – قابوس – وعفوه وصفحه الواسع وصبره وتمييزه للرجال حدث عن البحر ولا حرج ، وشعاره مع من اختلفوا معه ومع من عارضوه هو : عفى الله عما سلف .

ومبدأ العفو والصفح لم يكن معه مجرد شعار يرفعه لأغراض سياسية أو للتضليل الإعلامي كما نلاحظه ونلمسه من الحكام الآخرين ، بل أصبح نهجا عشناه في حياتنا ، ونعمنا به وكان بلسما وطهرا لنا في حالاتنا العبثية أو المتهورة ، فكان ذلك لافتًا للعالمين ، فأصبح نهجًا يترسم خطاه حكام الآفاق عندما يريدون أن يصلوا ما بينهم وبين شعوبهم ، كما اتخذته الجامعات ومراكز الدراسات منهجا تدرسه للدارسين في مجال العلوم السياسية وإدارة الحكم الرشيد ، حيث أصبح هذا النهج القابوسي محلا لاهتمامات واضعي لاستراتيجيات أنظمة الحكم في العالم
.


وفقيدنا كان من الفرسان المشهورين ، والقادة الآسرين بوهج شخصيته ، “وكارزميتها ” ، وخبراته الطويلة ، فهو صاحب قرار ، حين يستلزم اتخاذ القرار ، ليكون علاجا لمشكلة أو تحقيقا لمصلحة متوخاة . وكثيرة هي القرارات الحاسمة التي اتخذها السلطان قابوس بشجاعة ودون تردد ، ولعل أبرزها وأوضحها وتأثيرها كان كبيرًا في حياة العمانيين وفي صيانة استقلال عمان ووحدتها ، هو:
– قراره بمحاربة المتمردين في ظفار ، منذ توليه زمام الحكم وحتى الانتصار الساحق عليهم في 1975 م .
، فالجيش العماني بقيادة قابوس هو أول من ألحق الهزيمة بالشيوعية العالمية والحمد لله.
– وهو صاحب قرار حين دعا إلى إجراءات عملية وفعالة لتحفظ أمن الخليج وبحر العرب ، وحين شارك في بناء مجلس التعاون الخليجي .



– وحين تحفظ على توظيف دور مجلس التعاون أو تسخيره لأغراض لا تحفظ حقوق جميع المنتسبين إليه.
– وهو صاحب قرار في خدمة أهداف السلام والاستقرار في العالم ، وقد ظل يعبر عن ذلك بالمبادرات العديدة والكبيرة التي بادرت عمان إلى بذلها أو السعي إليها .


وقراراته وإن لم تجد لدى البعض إجماعا أو قبولها ظلت تكشف الصواب ، وتعلن الحقيقة ، وتعري الباطل والزيغ ، وتقدم مقارنات جلية بينها وبين من يعبثون بمقدرات الشعوب ، ولا يبالون بما يصيبها ، من قتل ودمار ، وإهلاك للحرث والنسل ، وتدمير للبلدان.

ومن قراراته ومواقفه الشجاعة في هذا المجال:
– فك العزلة عن مصر بعد اتفاقيات كامب ديفيد .
– وفي التوسط بين إيران والولايات المتحدة ، وفي التوسط بينها وبين دول الخليج ، وخاصة المملكة العربية السعودية.
– وقراره باعتماد عمان على نفسها في إعادة ما دمرته الأنواء المناخية الاستثنائية
– ومطالبته بأن تغيّر القمم العربية نهجها وأسلوبها وطرق التفكير فيها



وقابوس كما عرفه الجميع لا يخلف وعدًا لشخص أو لبلد أو في معاهدة أو اتفاق ، وإنما هو ممن يوفون بالوعود والعهود دون تأخير .
وهو لا يلزم نفسه ولا يقطع وعدا أو عهدا حين لا يقتنع بجدواه ، ولا يكيل الوعود بلا حساب .


وهذه الصفات في الوفاء بالوعد والعهد قلما تتوافر الآن ، ولا نلمسها من خلال تصرفات زعماء العالم الآخرين ، الذين يهربون من وعودهم ويبررون أو يتقلبون ، فيفقدون مصداقيتهم ، ويصغرون في عيون شعوبهم وفي عيون الآخرين ، ويتسببون في معاناة الشعوب ويلا وثبورا ، كما هو معلوم للجميع.

ولا ننسى الجانب الشخصي للفقيد قابوس ، فهو يأخذ بحديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إن الله جميل يحب الجمال ) ، فهو صاحب ذوق رفيع ، كما أنه أنيق في مظهره ، ويلتزم لبس البلاد ، يفاخر به أمام شعبه وأمام العالم بأسره ، مما كان له الأثر الطيب في التزام العمانيين به ، فأضفى عليهم هيبة ووقارا ، فنما في شعبه حسا حضاريا راقيا؛ فأصبح العماني معروفا بسمته ، وبأخلاقه ، وبهدوئه ، كما أصبح متميزا بزيه ومظهره ، وفي كل ذلك قدوته كان السلطان قابوس رحمه الله تعالى.
والسلطان قابوس – رحمه الله – يحترم أصحاب الرأي الصرحاء الذين يقف رأيهم على المصلحة العامة والتبصير بها ، وإن خالفوه فيما يذهب إليه هو، ويعد مخالفتهم له من باب الاجتهاد الذي يصب في مصلحة الوطن.


ولذلك كان مما تميز به أنه يعفو عن الإساءة ويؤكد فضل فعل الحسنات ، ولا يذكر مساوئ الآخرين، ويعمد الى الحوار والأسلوب الهادئ في بث أفكاره ومعتقداته وقناعته ورأيه.

والفقيد كان محبًا للخير للجميع ، لا يفرق بين جنس وجنس، ولا بين شخص وشخص ، بل هو لا يميز بين البشر بعنصرية أو تعصب على اللون أو البشرة أو الدين أو المذهب ، فهو يقبل الجميع ، ويحاور ويحترم ، ويساعد الجميع من غير منة ولا سمعة ولا رياء ولا لأغراض سياسية ،
ومن الأدلة على ذلك :
1- موقفه مع أهل غزة بعد حرب 2008م حيث أمر بتوفير المنازل المؤقتة لإيواء عدد كبير ممن دمرت بيوتهم ، ثم أمر ببناء بيوت ثابتة لهم ، ولولا تصريح الأستاذ خالد مشعل وإسماعيل هنية وقادة فلسطينيين آخرين وتقديمهم الشكر لعمان ولسلطانها لما علم أحد بذلك.
2- مشاركاته الإنسانية غير المعلنة لكثير من الجوانب والمجالات الإنسانية في العالم ، ومن الأمثلة وليس الحصر: بناء المراكز الثقافية والمساجد لتجمعات المسلمين في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا وأستراليا.
3- تبرعاته الكثيرة في مجالات عديدة من الجوانب والحالات الإنسانية دون ذكر لها في الإعلام.
4- تقديمه المنح الدراسية ومصروفات المعيشة للفقراء من طلاب الأزهر الشريف ، وذلك منذ عام 1990م وحتى يومنا هذا، وهذا لم نكن نعلمه لولا تصريح الشيخ علي خليل رئيس قطاع المعاهد الأزهرية.
5- يقول الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية ، جيمي كارتر ورئيس مركز كارتر للأعمال التطوعية ، بأن السلطان قابوس – رحمه الله تعالى – ساهم بسخاء لعلاج الأطفال المصابين بالسرطان في أفريقيا، واشترط جلالته – رحمه الله – بعدم ذكر ذلك لوسائل الإعلام ، فأين هذا من تصرفات الحكام والدول الأخرى ، حيث يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا .
6- الإعلان عن مشروع السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني خلال الاحتفال العالمي للتسامح بجاكرتا لعام 2019م، وهو ما يضع العالم أمام مسؤولية إنسانية وأخلاقية
ويهدف المشروع إلى المساهمة في وضع نهج يعيد التوازن بين المصالح والوصول إلى اقتراح منهج عمل يُقدَّم للعالم المضطرب ليعينه على النهوض من جديد ، واستشراف حياة متوازنة ، يعيش فيه الناس على أساس من الكرامة والحقوق الأساسية والأمان النفسي
ويتضمن المشروع ثلاثة أبعاد ضرورية : يتمثل الأول في تحسين حياة البشر، والبعد الثاني في اعتماد منظومة أخلاق عالمية، أما البعد الثالث فيتمثل في رعاية القيم الروحية للإنسان
وتتمثل هذه المرتكزات على ثلاثية حضارية إنسانية لتحقيق التعايش والتعارف بين البشر، وهي : العقل والعدل والأخلاق
ويعمل المشروع على ثلاثة موجهات ، تتمثل في تعزيز ثقافة السلام والتفاهم ، واحترام الحياة وتقديرها ، وطمأنة الناس بالحفاظ على هوياتهم وحياتهم الخاصة ، وتعميق قيم الشراكة المجتمعية بين الشعوب.
7- وجهوده لتخفيف معاناة الأزمة الإنسانية على الإخوة في اليمن ليس بخاف على أحد .







وقد عرف السلطان قابوس لدى القاصي والداني أنه يتصف بكل خير مما عرف من الشمائل الحميدة ، وأن هذه العظمة في الأخلاق وتمثلها في شخصيته سلوكا حيا وقدوة حجة أمام الجميع، لم تؤثر عليها مسؤولياته الجسام ، بل زادتها رسوخا وهيبة وعطاء.
وبالطبع فإن في هذا نصيبًا للشعب العماني الأبي بسبب وقوفه مع سلطانه الراحل ، والتزامه بمبادئ الإسلام وللإرث الحضاري لبلادنا سلطنة عمان
.
رحم الله جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور وعفى عنه وغفر له ،وأسكنه فسيح جناته ،كما نسأله تعالى أن يوفق سلطاننا هيثم بن طارق حفظه الله تعالى، وأن يسهل له طريقا نحو التطور والمنعة والعزة والكرامة ، وأن يجعله خير خلف لأهل عمان خاصة ولمن ينظرون إليها بعين الأمل من الشعوب المظلومة .



Your Page Title