د. محمد بن عوض المشيخي – أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

الوظيفة العمومية في المجتمعات المثقفة والتي تتمتع بالشفافية والنزاهة، تُعَد تكليفا قبل أن تكون تشريفا أو نفوذا وكسبا للمال والشهرة، فعندما يكون الشخص المناسب في موقع رفيع يخدم من خلاله المجتمع بإخلاص، ويقدم لهم أكثر مما يأخذ مقابل الوظيفة التي يشغلها، فهو هنا في مقام التكليف، حيث أصبح المنصب يشكل معاناة وتوترا وخوفا من الوقوع في الخطأ الذي يمكن رصده والتعرف عليه من قبل السلطات الرقابية المتمثلة في ركيزتين أساسيتين للضبط هما الصحافة والبرلمان، فالمسؤول الذي يخاف من المحاسبة يبذل قصارى جهده قبل اتخاذ أي قرار متهور قد يتسبب في إقالته من المنصب.
لقد أدركت القيادة الحكيمة في هذا البلد منذ سنوات مبكرة للنهضة خطورة ما قد يتعرض له المسؤول من قبل أصحاب النفوذ من الخارج والداخل، لذا خصصت للوزراء والقضاة وأمثالهم من المسؤولين رواتب عالية ومكافآت مجزية كي لا يكون هؤلاء الذين يتولون مراكز حساسة تحت نفوذ أو حاجة لأي جهة كانت للتأثير على القرارات التي قد تتخذ لمصلحة طرف معين. وعلى الرغم من كل ذلك لم تكتف الحكومة الرشيدة بحسن النوايا وتقديم الرواتب المجزية، بل وضعت القوانين الرادعة التي تحمي المال العام، وذلك من خلال إقرار الذمة المالية التي نصت عليها المنظمة الدولية، فقد انضمت السلطنة لهذه الاتفاقية بموجب المرسوم السلطاني رقم 64/ 2013 الصادر بتاريخ 20 نوفمبر 2013م. وقبل ذلك بعامين، بدأت السلطنة بالتوسع في محاربة الفساد المالي والإداري، منذ صدور المرسوم السلطاني رقم 112/2011 الذي تضمن منح سلطات جديدة لجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة في مجال حماية المال العام وتجنب تضارب المصالح، وذلك من خلال طلب إقرارات الذمة المالية بموجب حكم المادة (12) منه، والتي فوَّضت رئيس جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة في إصدار نموذج إقرار الذمة المالية للمسؤول الحكومي.
ويتضمن نموذج الإقرار الذي يفترض أن يعبئه هذا المسؤول عند توليه المنصب؛ وهو الإفصاح عن جميع ممتلكاته العقارية وأمواله النقدية بالإضافة إلى ما يملك من الأسهم والسندات والحصص في الشركات والحسابات البنكية، بما في ذلك أملاك الزوجات والأولاد القصّر. والهدف من ذلك كله هو معرفة مدى التضخم المالي والثراء الذي قد يجلبه المنصب الجديد لصاحبه.
وقد كشف جهاز الرقابة الأشخاص الذين ينطبق عليهم هذا التوصيف حيث “يشمل مفهوم المسؤول الحكومي كل شخص يشغل منصبًا حكوميًّا، أو يتولى عملاً بصفة دائمة أو مؤقتة في إحدى وحدات الجهاز الإداري للدولة بمقابل أو بدون مقابل، ويعتبر في حكم المسؤول الحكومي أعضاء مجلسي الشورى والدولة، وممثلو الحكومة في الشركات، والعاملون بالشركات المملوكة للحكومة بالكامل، أو تلك التي تُسهم فيها بنسبة تزيد على 40% من رأسمالها”.
وحول الممارسة الفعلية لتطبيق القوانين الخاصة بحماية المال العام وتجنب تضارب المصالح ذلك لكون أن هناك عددًا من المسؤولين يمتلكون شركات ومؤسسات قد تتعامل تجاريا مع الحكومة وتنفذ بعض المشاريع من خلال مجلس المناقصات وغيرها، من هنا فقد أوضحت بعض المعلومات المنشورة في إحدى الصحف المحلية العام الماضي، عن: “أن إقرار الذمة المالية تطلب من أسفل الهرم بشكل إلزامي وإلا سوف يتعرض من يخالف ذلك للمساءلة القانونية…في المقابل نجد أنها لا تطلب من أصحاب المعالي والسعادة إلا من خلال توجيه من قبل رئيس الرقابة المالية نفسه؛ هذا إن حصل طبعا”. وإذا كانت هذه الممارسات صحيحة؛ فإنها بلا شك تعمل على تقويض النزاهة التي نريد، وتعرقل الآمال والطموحات الوطنية لمحاربة الفساد، فرؤساء الوحدات الحكومية هم الأولى بالإفصاح عن الذمة المالية بعد أداء القسم مباشرة؛ لكونهم يصنعون القرارات في وزاراتهم ويحددون المشاريع الكبرى التي يجب أن تنفذ في البلد كل في مجاله، فضلا عن العلاقات التي تربط هؤلاء بكبار التجار وأصحاب المصالح الاقتصادية . فكيف لا يُبدأ بهم في الإقرار ويكونون قدوة لغيرهم في الإفصاح عن ممتلكاتهم؟!!.
إن وضع الأمر لتقدير رئاسة جهاز الرقابة المالية والإدارية والثقة المطلقة بالمسؤولين فقط، بدون استصدار نص قانوني صريح يجبر الجميع على الالتزام بالذمة المالية من الوزير إلى أمين المخازن في الوزارات والهيئات الحكومية، سيساعد على فتح فجوات من الصعب صدها، وكذلك قد يضعف الدور الرقابي للموظفين العاملين في الميدان. ولم يعد الأمر مقصورًا على ما ورد في الصحافة من نقد، بل تعدى ذلك إلى قبة مجلس الشورى الجهة الرقابية الرئيسية في البلد، فقد علق رئيس اللجنة القانونية في المجلس، منذ عدة سنوات على التقرير السنوي لجهاز الرقابة الذي يرفع للجهات الثلاثة؛ السلطان ومجلس الوزراء، ومجلس عمان، حيث قال “بأنه بحسب الصلاحيات التشريعية والرقابية الممنوحة لمجلس الشورى من خلال التعديلات التي أُجريت على النظام الأساسي في عام 2011، فإنه من المفترض أن يؤدي المجلس دورا رئيسا في تبني الملاحظات والمخالفات الواردة في التقرير السنوي لجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، وذلك باستخدام الأدوات الممنوحة له وفِي مقدمتها الاستجواب، ويكتفي المجلس في الوقت الحالي بتوجيه بعض الأسئلة وطلبات الإحاطة عن بعض الملاحظات والمخالفات، ودائما ما تكون الإجابة معروفة سلفا، وهي بأنه سوف يتم التعامل مع المخالفات”.
لقد أصبح من الضرورة بمكان إطلاق يد مجلس الشورى في ممارسة صلاحياته الدستورية في استجواب المخالفين من كبار المسؤولين المتجاوزين للأنظمة والقوانين المالية، وكذلك إماطة اللثام عن الفاسدين الذين سولت لهم أنفسهم نهب المال العام وخيانة الأمانة، ولا يوجد أي مبرر للتستر عليهم وإخفاء تجاوزاتهم، إن الكشف عن المستور من الفساد عبر منابر المجلس وعبر الصحف لهما؛ عبرة لمن أراد أن يعتبر وخير رادع لهؤلاء من علية القوم الذين يأكلون الأخضر واليابس مهما امتلأت جيوبهم من أموال الحرام، ومما لا شك فيه أن هذه الممارسات دخيلة على مجتمعنا، وينبذها الشرفاء من أبناء عمان الأوفياء للوطن الذي لم يقصر مع أحد.
وعلى الرغم مما سبق ذكره من عتاب، لا بد لنا هنا أن نثمن ما أنجزه هذا الجهاز الوطني من إنجازات جديرة بالشكر والتقدير، فقد نجح هؤلاء الجنود المخلصون للوطن والسلطان من استرجاع 340 مليون ريال عماني لخزينة الدولة وذلك خلال عامي 2010 و 2011، وكذلك كشفت تقارير جهاز الرقابة المالية مؤخرًا عن وجود أعداد كبيرة من الوافدين الذين يشغلون وظائف إشرافية وقيادية في الشركات الحكومية، إذ ساعدت هذه التقارير وزارة المالية على التوجيه العاجل بتعمين تلك الوظائف.
وفي الختام، لقد حان الوقت لتوحيد الهيئات الرقابية التي تتولى الإشراف على المال العام في القطاع الحكومي المدني لتكون تحت جهاز رقابي موحد يشمل قطاع الخدمة المدنية وديوان البلاط السلطاني وشؤون البلاط السلطاني، فالمواطنون في هذا الوطن سواسية حسب النظام الأساسي للدولة ويجب ألا يكون أحد فوق القانون، فهذا الدمج إذ ما تم سوف يوفر الموارد والجهد ويضاعف القدرة الرقابية للجهاز الوطني المركزي الذي نتطلع إلى قيامه.. وكما قيل قديما “العدل أساس الملك”.
*صورة الموضوع من الأنترنت