د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
لمّا كان التوجه العالمي في فلسفة التعامل مع كورونا (كوفيد19) بعد مرور ستة اشهر من انتشاره، قائمة على أساس تكييف المجتمع بكل أطيافه وشرائحه للتعايش مع جائحة كورونا، وانتقال مسؤولية الحد من انتشار الفيروس من مسؤولية الدولة بما اتخذته من إجراءات وقائية وتدابير احترازية وما اوجدته من بيئة تنظيمية وتشريعية إلى مسؤولية الفرد والمجتمع في التزامه ووعيه وحسه الوطني والصحي والأمني وإدراكه لمعايير السلامة والصحة العامة، بما يصنعه من نماذج عمل وقدوة ذاتية في تعاطيه مع الجائحة ووقوفه على التعليمات الصادرة من اللجنة العليا المكلفة ببحث آلية التعامل مع التطورات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19) وتمثله لها واقعا عمليا ينعكس على تصرفاته وممارساته وقناعته الفكرية والأدبية والأخلاقية، وما يلتزم به من إجراءات وتدابير يطبقها على ممارساته الذاتيه في نطاق الأسرة والوظيفة والمجتمع وفي استخدامه للأماكن العامة وغيرها.
لذلك فإن الحديث عن علاقة التعليم بتكييف المجتمع وتأقلمه مع معطيات هذه الجائحة، وتعزيز المسؤولية الفردية والمجتمعية نحو كورونا، تعبير عن اجتماعية التعليم كونه شراكة مجتمعية تتفاعل معها كل شرائح المجتمع وتتواصل خلالها الخبرة مع التجربة والمهارة والأسلوب والذوق الحسن وقواعد السلوك المسؤول؛ أساسها المتعلم نفسه بما يمثله من حضور مجتمعي وموقع له في السلم الاجتماعي (أب وأم وابن وابنه ومسؤول وموظف ورجل اعمال ورائد أعمال وكاتب ومثقف وغيرهم)، لكونهم جميعا جزءا من هذه المنظومة التعليمية، شكلت شخصيتهم، وأسست قناعاتهم، وحددت توجهاتهم، وأثرت أفكارهم، ورسمت ملامح مستقبلهم، وأنتجت دوافعهم، ووضعتهم أمام مشاهد واقعية، وأحداث ملموسة ، ومواقف محاكاة للواقع العملي ، وهو المعني الذي أشار إليه الخطاب السامي لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه في أثناء توليه مقاليد الحكم في البلاد، عند حديثه عن التعليم بقوله: ” وأقام هياكل ثابتة ودائمة للتعليم بجميع مستوياته وتخصصاته، فنهلت منه الأجيال وتشربت علمًا ومعرفة وخبرة”، وبالتالي ما يحمله منطوق الخطاب السامي من دور التعليم كمدخل للمستقبل والمحافظة على رهان عمان المستقبل في بناء مواطن المرحلة، بما يحمله من قيم وأخلاقيات ومبادئ واستراتيجيات في التعاطي مع جائحة كورونا ( كوفيد 19) أو غيرها من الازمات والاحداث وقضايا الساعة التي يعايشها المواطن على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، وما تتطلبه هذه المرحلة من امتلاك المواطن للممكنات التعليمية والفكرية والمهارية والمعرفية والتشريعية والثقافية وتلك المتعلقة بحرية الرأي والتعبير وحس المواطنة وقيم الولاء والانتماء والمسؤولية، بما يعزز من تفوقه على كل المنغصات والتحديات الناتجة عن كورونا فيتعامل معها بمزيد من الفقه بألياتها والبصيرة بأدواتها ليتخذ منها الموقف الذي يتناسب وطبيعة الظروف، ويتجاوز في ذلك كل مسببات الإحباط والفشل وحالة القلق والخوف، بأن يوطّن نفسه ويعزز من امتلاك فرص الإرادة والانتاجية لديه، فيصنع من هذا التناغم في القناعات والأفكار والالتزام بالتعليميات والتعاطي الجدي الواعي مع قرارات اللجنة العليا المكلفة ، فارقا في الأداء تظهر في القيمة التنافسية التي يحملها المواطن في تعاطيه مع متطلبات هذه الجائحة وأبعادها.
من هنا فإن قدرة التعليم على الوفاء بالتزاماته، وتقديم الحلول الاستراتيجية والمبادرات النوعية التي تعزز من وعي المجتمع بفيروس كورونا وتؤسس لمرحلة التعايش الواعي الذي يحفظ مسؤولية المواطن ( فردا كان أم جماعة) في الوصول إلى أعلى درجات السلامة والأمان والاستقرار النفسي والصحة؛ مدخلات تصنع من التعليم مرحلة قوة، وممكّن وطني في استلهام موجهات التعامل مع كورونا، فيؤسس في المتعلم مفاهيم العيش في ظل الأزمات والكوارث، ويبني في المتعلم قيمة الالتزام بمعايير الصحة العامة والنظافة بالمداومة على غسل اليدين بالماء والصابون، ويصنع في المتعلم دافع المراجعة للعادات والتقاليد المجتمعية بحيث يوجهها لصالح ترقية الأمان النفسي الناتج عن تجنب إصابته بمرض فيروس كورونا وعبر التقيد بإجراءات التباعد الاجتماعي والجسدي ، وعندما يجسد التعليم هذه المعاني والقيم في حياة المتعلم فيتشرّبها ويؤسس عليها نجاحاته ويصقل خلالها مهاراته وقدراته ويستنطق في ظلها القيم والمبادئ، وترقية الأفكار الذاتية وتصحيحها وتوجيهها لصالح نفسه ومجتمعه فإنه يجعل من التعليم مدد يستمد منه قدرته على التعايش مع هذا المرض بروح عالية وقيم أصيله وقناعات واثقه وأنماط حياتية متجددة وعادات اجتماعية نوعية وسلوك يومي يتسم بالابتكارية والتجديد واضافة نكهات الإيجابية والأمل وحس التفاؤل والنشاط والاجتهاد وتغيير العادات السلبية والتخطيط النوعي للمستقبل، في ظل تقييم مستمر للأوضاع وإعادة هندسة الواقع ليتناسب مع طبيعة الفرص المتوفرة، ليؤسس فيه التعليم حالة استقرار غير متناهية، ومساحة أمان تزيد من حس الشعور الايجابي لديه، والتصالح النفسي مع الذات والأخر، فيقبل على الحياة بطمأنينة وثقة بالله، كما تقل معدلات القلق لديه وحجم الخوف الذي ينتابه.
على أن مساهمة التعليم في تكييف المواطن والمجتمع للتعايش مع كورونا لا يقتصر على تعزيز البناء النفسي والقيمي والفكري للمواطن بحيث يستشعر مسؤولياته نحوه ويضع التدابير والاحترازات موضع التنفيذ والتطبيق لها، بل أيضا عبر توجيه الفرد والمجتمع إلى توفير البدائل والموجهات الحياتية التي تشغله عن التفكير في كورونا وما يصاحبه من زيادة هرمون القلق الذي سيؤثر سلبا على كل تفاصيل حياته اليومية، إنطلاقا من مبدأ أن التعايش مع الظروف يؤسس لمرحلة الابتكارية في العمل والأنشطة الحياتية التي تبعد عنه هواجس المرض سواء عبر التفكير في ممارسة الأنشطة الاقتصادية والمهنية وإشغال نفسه بالاهتمام بالمهارات الشخصية والمبادرات المجتمعية وتعزيز حضوره في منصات الاختراع والاكتشاف والبحث وغيرها.
لذلك كان على التعليم وهو يضع قواعد التعامل الصحيح مع السلوك البشري، أن يراعي حقيقة هذه التباينات بين الافراد والاختلافات الحاصلة بينهم في الأذواق والاهتمامات والقدرات والاستعدادات، لتؤدي طرائق التدريس وأساليب التعلم وكفاءة الممارسين التعليميين وتنوع الأدوات وتعدد البدائل واتساع الحلول القادرة على تأصيل ثقافة التعايش مع كورونا، بحيث يلتصق بجدار الممارسة ويبني نطاق المسؤولية الموجهة نحو كورونا ( كوفيد19) في بيئة الصف الدراسي والمدرسة وقاعة التدريس والجامعة وفي المختبرات العلمية وغيرها، بما يعني أن الوصول إلى هدف التعايش مع الأخذ بالإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية في التعاطي مع فرضية بقاء كورونا لفترة أطول، يستدعي أن يقرأ التعليم هذه المساحة الحوارية مع ذات المتعلم فيخاطب فكره وعقله كما يخاطب وجدانه ومشاعره، وكلما استطاع التعليم أن يوفر الأدوات ويبتكر الاليات ويتيح للمتعلم فرص صناعة تعلمه بنفسه مراعيا قدراته وواقفا على مشاعره ومحطاته النفسية آخذا بيده مطلعا على الواقع التي يعيشه أو يتعايش معه؛ كلما عزز ذلك من امتلاك المواطن فقه التعايش مع كورونا والتعامل مع معطياته ويمتلك الممكنات النفسية والصحية الوقائية والعلاجية التي تحفظ له حياته امنة مستقرة بعيده عن منغصات المرض أو مسببات القلق أو موجبات السخط والعياذ بالله، وهو ما نعتقد بأن على التعليم أن يقوم به في هذه المرحلة بشكل أكثر كفاءة ومهنية وعبر تبني برامج وخطط تثقيفية وتوعوية تستهدف تعريض المتعلمين للعيش في ظروف مماثلة ومتغيرات واحداث صعبة.