د. رجب بن علي العويسي
في عالمنا المليء بالتناقضات والتباينات والاختلافات، تعيش الهوية حالة من التذبذب وعدم الثبات، وتداخل المؤثرات والأفكار وكثرة الاجتهادات واتساع مساحة التأويلات والتفسيرات، مما أغرقت المواطن في دوامة الهواجس والأفكار أحادية المصدر، والمعلومات التي بات يبحث فيها عن مساحة أمان قد تتناغم مع هويته أحيانا وقد تتباعد في أحايين كثيرة، لذلك يطرح موضوعنا فرضية التأثير المحتمل للسياسات الاقتصادية والإجراءات الحكومية المتعددة سواء في رفع الدعم عن الكهرباء والماء وقضايا أخرى مرتبطة بالضرائب غير المباشرة والرسوم التي يدفعها المواطن مقابل بعض الخدمات على هويته وقناعاته حول الالتزام بالإبقاء على مسار التفرد في منظومة المبادئ والقيم والمنهجيات التي يتميز بها.
وبالتالي فإن التأثيرات الفكرية المتوقعة لهذه التوجهات بحاجة اليوم إلى جهد وطني يحفظ للهوية موقعها في خلد الإنسان العماني وكيانه، واستشعاره بأن هذه التحولات الاقتصادية ضرورات وقتية ناتجة عن ظروف معينة وأحداث فرضتها جائحة كورونا (كوفيد19) وأحداث أخرى، لا ينبغي أن تمس الثوابت الوطنية العامة المتأصلة في فقه الانسان العماني والمتجذرة في عقيدته، والتي أكدها النظام الأساسي للدولة وحفظها كحق للمواطن للعيش في أمن وسلام وطمأنينة واستقرار، وظروف مالية واقتصادية مناسبة تحمي هذا الانسان من الضرر وتبعده عن شبح السلوك غير المرغوب، وفي الوقت نفسه ضمان أن تكون الهوية الرابطة الوطنية الكبرى والنهج المتسامي فوق صيحات التغيير ونواتج السياسات الاقتصادية، وهو الأمر الذي يفرض دورا محوريا لكل قطاعات الدولة عامة والمؤسسات الاقتصادية المعنية برسم السياسات وتنفيذها خاصة في التعاطي الحذر والواعي مع هذه الجوانب التي قد يترتب عليها التأثير على هوية المواطن وقناعاته وعقيدته الوطنية وولائه وانتمائه لأرضه والتزامه بكل ما فرضه القانون بكل طواعية وعن طيب نفس، وضمان عدم الدخول بها في تكدير صفو العلاقة المتأصلة بين الحكومة والمواطنين، وبالتالي ما تتخذه المؤسسات في ظل منهج الوضوح والشفافية والحوار والخطاب المؤسسي الذي يحمل الهواجس والطموح، كما يحمل الحلول ويفتح الآمال العريضة ويستشرف مستقبل المواطن في ظل هذه الأوضاع، مراعية الظروف الاجتماعية والنفسية للمواطن، واضعة مشاعره وهواجسه وصرخاته واستغاثته وما يطرحه في منصات التواصل الاجتماعي وغيرها محل التقدير والاهتمام والعمل بها، ومراجعة القرارات المتخذة بالشكل الذي يعبر عن وجود مساحة أكبر للتعايش مع فكر المواطن والتقارب مع روح التغيير التي ينشدها، ومساحة الانتظار التي يستشرف فيها قراءة متأنية للواقع، تضع المواطن رهان العمل ومحور التغيير وأولوية التوجه، واضعة البدائل التي تعمل على التقليل من تأثير هذه التوجهات الاقتصادية على مواطنة المواطن وانتمائه وولائه في أولوية العمل ومسار التوجه.
ومعنى ذلك أن الوصول إلى حس الشعور المشترك وإدارة المشاعر النفسية والثقة المتبادلة مع المواطن، مدخل للتعايش الفكري المؤدي إلى فتح مساحة أكبر لاستقراء المعلومات وإجراء المسوحات وإتاحة الفرص للمواطن للتعبير عن هذه التوجهات ونقدها والتأمل فيها وبناء سيناريوهات جديدة نحوها، مع وضوح المبررات والأهداف العامة، والمؤشرات الضامنة لتأثيرها العملي على موازنة الدولة والمشروعات الاقتصادية التي ستنفذها، أو في معالجتها لقضايا الباحثين عن عمل والمسرحين، والقروض البنكية والالتزامات التي باتت تشكل ثقلا على المواطن يجب أخذها بعين الاعتبار، بما من شأنه التقليل من أثر هذه السياسات على اضطراب الهوية وتعرضها للتغيير، والمحافظة عليها من أي تدخلات قد تشوه صورتها أو تضيّع بريقها أو تُدخلها في خضم التناقضات والتباينات والفوضى الفكرية التي تصنع شخصية أخرى وتتيح لتبني أفكار قد تتقاطع مع سلامة التفكير ومنطق الالتزام الذي يؤمن به المواطن، وشعوره بوجود ضغط اقتصادي قادم عليه، وإحساسه بأن المؤسسات تتجه إلى اعتباره الحلقة الأضعف في عملية التطوير، أي بأنه مستهلَك أكثر من كونه مشارك وفاعل في رسم ملامح التغيير الاقتصادي.
هذا الأمر من شأنه ضمان بقاء الهوية في أعلى مستويات القوة والتأثير، وعندها تصبح المسألة مرتبطة بحجم ما تحمله أجندة المؤسسات من فرص أكبر للتسامح المعرفي والتعايش الفكري لتوليد سيناريوهات وبدائل متجددة أكثر أريحية وشفافية ووضوح في تشخيص الحالة الوطنية ومحاولة عدم الزج بهذه التوجهات في التأثير على إخلاص المواطن ومواطنته وعلى تمسكه والتزامه وهويته، كما يقلل من التأثير السلبي لمنصات التواصل الاجتماعي في اضطراب الهوية في ظل تدخل الفكر البديل الناتج عن الترويج والإشاعة وتداول المعلومات الكاذبة أو التفسيرات غير المقبولة، وهنا تأتي قيمة التأصيل الفكري في قراءة التوجهات الاقتصادية ووضع المواطن الحلقة الأقوى في التغيير، الطريق لضمان وجود مساحات التقاء وتشاركية مستمرة في الفكر وإنتاجه، وتقاسم عمليات التفكير مع المواطن في التعاطي مع نواتج هذه السياسات والإجراءات المتخذة، وعبر تحسين نهج الخطاب الإعلامي وبرامج التوعية والتثقيف ودور جهات الاختصاص ومتخذي القرار في تقريب صورة العمل بكل وضوح وشفافية ومهنية لمزيد من الثقة والعمل الوطني المشترك الذي تتجسد فيه طموحات المواطن العماني وتوقعاته.
أخيرا.. لم يعد التعايش الفكري مع المواطن وتقريب الصورة الفعلية لهذه السياسات في أدق تفاصيلها من حيث المخاوف المحتملة، وردود الأفعال المتوقعة، ونتائجها على استقرار المواطن اقتصاديا، والرقم الذي تحققه في خطة التوازن المالي والاستقرار الاقتصادي للدولة، لم يعد مساحة اختيارية قائمة على المزاجية والمنع أو التأخير أو القبول بحسب رغبة المسؤول الحكومي؛ بل ضرورة حتمية يفرضها واقع العمل الوطني وتستدعيها الضرورات الأمنية للمجتمع، وهي في الوقت نفسه محطة لاختبار الهوية وتأصيلها والمحافظة على كفاءة تأثيرها وضمان بقائها في ثوابت المواطن العماني، ومسار عمل مشترك لإنتاج القوة وبناء الذات والاعتماد على النفس وتعميق مفهوم المواطنة المنتجة وترسيخ مبادئها، إنها محطة لانضواء الجميع تحت لواء الوطن وتعزيز هاجس المواطنة وترسيخ مبادئها، فبقدر تعزيز التعايش الفكري والقناعة بأهمية الحوار مع المواطن والاستماع إليه والحديث معه والإنصات لما يقوله، واعتراف المؤسسات بأهمية تعميق الصورة الإيجابية لدى المواطن حول الآخر، بقدر ما يضمن ذلك تحولا في التعاطي مع هذه القضايا، وعندها يستشعر المواطن بأن ما يُتخذ من إجراءات وما يُبذل من جهود وما يُنفذ من سياسات وإجراءات اقتصادية؛ إنما يستهدف المحافظة على أمنه وثروات الوطن وموارده والتثمير فيها وتحقيق عوائد اقتصادية واجتماعية تظهر لدى المواطن في مجالات أخرى تتناغم مع متطلباته واحتياجاته ليجد فيها الإجابة عن التساؤلات التي يطرحها، والأفكار التي باتت تشكل هاجسه في اليوم والليلة، إنها الطريق الأفضل لضمان تحقق استقرار فكري يحفظ هويته ويصون مبادئه، ويبني فيه روح المواطنة وحس الوطن النابض بالحب والعطاء والإنجاز والتضحية من أجل عمان.