فضاءات

عِبر ودروس من تجربة السلطان قابوس في قيادة التغيير

جلالة السلطان يهنئ الملك سلمان
جلالة السلطان يهنئ الملك سلمان جلالة السلطان يهنئ الملك سلمان

صلاح بن سالم بن حمد المسروري- خبير إدارة مشاريع وتغيير

يعلم العديد من المتخصصين في علوم السياسة والإدارة بأن السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه – كان أحد قادة التغيير العالميين المؤثرين والملهمين في القرنين العشرين والحادي والعشرين، لكن الذي لا يعلمه الكثير بأن رحلة هذه الشخصية الفذة في قيادة التغيير في السلطنة قد وافقت وانسجمت تماما بالفطرة أولا وبالعلم ثانيا مع كل المنهجيات العلمية المعترف بها والمعمول بها دوليا في إدارة التغيير، والتي ما تزال تدرس إلى الآن في أعرق الجامعات الدولية. ومن هذا المنطلق ارتأيت أن أسلط الضوء على هذا التوافق بين رحلة السلطان قابوس في تغيير عمان وبين إحدى المنهجيات المشهورة في إدارة التغيير، لعلي أوفق في الخروج بعبر ودروس تعين قادة المؤسسات الحكومية والخاصة بالعهد الجديد في إحداث التغيير الإيجابي المنشود في مؤسساتهم لإسعاد موظفيهم وعملائهم وشركائهم بشكل خاص وشعب عمان الحبيبة بشكل عام.

عِبر ودروس من تجربة السلطان قابوس في قيادة التغيير
عِبر ودروس من تجربة السلطان قابوس في قيادة التغيير عِبر ودروس من تجربة السلطان قابوس في قيادة التغيير

وقبل البدء في سبر أغوار رحلة التغيير التي قادتها هذه الشخصية العبقرية الفذة، يستوجب الأمر أولا التعرف على إدارة التغيير وما المقصود منها وما أشهر منهجياتها العلمية؟ وهل تطبيقاتها وممارساتها مهمة إلى هذه الدرجة في عالم السياسة والإدارة والاقتصاد والمال؟
إدارة التغيير في عالم الإدارة هي نهج لدفع الناس للانتقال من وضع سائد إلى وضع جديد متطور، فالرسول الأكرم بشر وأنذر فدفع الناس للانتقال من عبادة الأصنام إلى عبادة الله الواحد الديان، وغاندي بدبلوماسيته وصبره نقل الهند من وضعية البلد المحتل إلى وضعية البلد الحر، وستيف جوبز وبيل جيتس وبيزوس وجاك ما وغيرهم بعبقرياتهم وبحلولهم التقنية نقلوا سكان العالم إلى فضاء التجارة الإلكترونية بعد أن كانوا لقرون طويلة معتادين وأسرى لطرق الشراء والبيع التقليدية …. هذا هو التغيير بشكل مختصر، أما المنهجيات العلمية والمعترف بها والمعمول بها دوليا فكثيرة أشهرها منهجية كوتر ومنهجية ادكار ومنهجية لوين ومنهجية لين حيث إن الأخيرة هي المعمول بها في شركة تنمية نفط عمان. كما أن إدارة التغيير ليست مجرد نظريات بل تطبيقات علمية وعملية تضمن لمنفذي خطط التغيير النجاح الباهر بجودة عالية وبتكلفة منخفضة وبمقاومة متدنية وبمشاركة واسعة وبإدارة سليمة للمخاطر.


في هذا السياق قد وقع اختياري على منهجية كوتر لمقارنتها مع رحلة السلطان قابوس – طيّب الله ثراه- في تغيير عمان، لشموليتها ولسهولة تطبيقاتها، وسوف أسرد في البداية المسارات الثمانية في عملية إحداث التغيير التي اعتمد عليها كوتر في منهجيته، ثم سأختبر تجربة السلطان قابوس في قيادة التغيير بالسلطنة ومدى مطابقتها لهذه المنهجية. فالمسارات الثمانية لمنهجية كوتر هي كالتالي:
 أولا : إثارة الإحساس بوجود ضرورة ملحة للتغيير.
 ثانيا : إنشاء تحالف توجيهي لقيادة التغيير.
 ثالثا : وضع رؤية للتغيير.
 رابعا : نقل رؤية التغيير للآخرين.
 خامسا : تمكين قاعدة عريضة من الناس للمشاركة.
 سادسا : تحقيق مكاسب قصيرة الأجل والإعلان عنها.
 سابعا : تعزيز المكاسب وإحداث مزيد من التغيير.
ثامنا : استدامة التغيير وترسيخ طرق جديدة في الثقافة.





الآن وبعد التعرف على المسارات الثمانية في منهجية كوتر في إدارة التغيير، سوف نسقط تجربة السلطان قابوس في قيادة التغيير على كل مسار ونرصد الملاحظات والنتائج….

أولا: إيجاد الإحساس بوجود ضرورة ملحة للتغيير: عانت السلطنة قبل تولي صاحب الجلالة السلطان قابوس الحكم من ويلات أعداء أربعة، هم الجهل والمرض والفقر والتشرذم السياسي، فأوجد السلطان من خلال خطاباته الأولى في عام 1970م إحساسا عاما بأن التغيير قادم لا محالة، وأعطى وعدا بأن يبني حكومة عصرية ويجعل الشعب يعيشون سعداء لمستقبل أفضل. فخطاباته أعطت إشارات للعمانيين في الداخل والخارج بضرورة التغيير ونقل البلاد من وضع بائس إلى وضع مشرق وزاهر، طابعه العلم والصحة وجودة الحياة العالية والوحدة الوطنية.

ثانيا: إنشاء تحالف توجيهي: آمن السلطان قابوس منذ البداية بأنه لا يستطيع لوحده أن يحدث التغيير في نقل البلد إلى الحداثة وجعل أهلها يعيشون سعداء لمستقبل أفضل، فقام بإنشاء تحالف قوي بين الحكومة وممثلي الشعب، وقد تجسد هذا التحالف بشكل جلي منذ البداية حينما تم دعوة المغتربين والمعارضين للعودة لبناء الوطن، وقد أشار السلطان صراحة في خطابه الثاني في عام 1970م إلى أنه بدون التعاون بين الحكومة والشعب لن نستطيع أن نبني بلادنا بالسرعة الضرورية للخروج بها من التخلف الذي عانت منه هذه المدة الطويلة، ومن هذا استنتاج بأن مسار بناء التحالف لقيادة التغيير في بدايات عصر النهضة قد تم وبشكل مبهر.

ثالثا : وضع رؤية التغيير : أعلن صاحب الجلالة في خطابه الثالث عن رؤيته في بناء عمان، ابتداء بترسيخ الوحدة الوطنية، ثم بمنح الحريات الدينية والمدنية للمواطنين، ثم بتنمية الموارد البشرية العمانية لتكون قادرة على إدارة البلاد واستغلال مواردها الاقتصادية والطبيعية الاستغلال الأمثل وصولا للتنمية المستدامة الشاملة ورفع المستوى المعيشي وجودة الحياة، وأخيرا بالانفتاح على العالم الخارجي بدون التدخل في شؤون الغير وبدون السماح للغير في التدخل في الشأن العماني، وفعلا الرؤية وضعت وحددت بإتقان وكانت واضحة للداخل والخارج.

رابعا : نقل رؤية التغيير: لم يكتفِ صاحب الجلالة بالخطابات لنقل رؤيته للمواطنين والحكومة على حد سواء، فقد كان للإعلام المشاهد والمسموع والمقروء دور كبير في هذا الجانب، حيث تم في البدايات التركيز على التدريب والتثقيف والإرشاد والتوجيه، كذلك كان للجولات السامية في مختلف أرجاء عمان والالتقاء بالمواطنين دور كبير في نقل هذه الرؤية وأخذ التغذية الراجعة. وفي الشأن الخارجي كانت الوفود العمانية تسابق الريح لطمأنة دول العالم أن السلطنة دولة سلام وانفتاح، ومن هنا نلاحظ بأن الرؤية قد نقلت بوضوح لجميع الشركاء وبأكثر من طريقة ووسيلة.

خامسا: تمكين قاعدة عريضة من الناس للمشاركة: وكي تحقق رؤية السلطان وتوضع موضع التطبيق والتنفيذ، فقد كان لزامًا بأن تؤطر في سياسات وتشريعات وهياكل تنظيمية واستراتيجيات وخطط خمسية وبرامج إنمائية يشارك في إعدادها الحكومة والشعب معا من خلال مجلس الشورى ومكاتب الولاة والاستفتاءات الشعبية كما حدث في إعداد رؤية عمان 2040م، والذي يدقق في مسيرة النهضة المباركة يلاحظ بأن جميع أطياف الشعب بطريقة أو بأخرى أسهمت وشاركت في نقل عمان إلى الحداثة والازدهار.

سادسا: تحقيق مكاسب قصيرة المدى والإعلان عنها: تميز السلطان قابوس بطاقته الإيجابية وبلسانه العذب، فتجد أن كل خطاباته وأحاديثه تتسم بروح الاعتزاز والفخر والسمو والتقدم، فهو إن كان يذكَر ويعدد في خطاباته السنوية ولقاءاته بالمواطنين وممثليهم المنجزات التي تحققت، فهذا لا يعني في عالم الإدارة بأنه كان يتفاخر بها، بل كان يهدف إلى شحذ الهمم وتقديم الشكر والثناء للشعب والحكومة على مجهوداتهم الكبيرة في سبيل تحقيق هذه المنجزات، لتكون لهم دافعا لتحقيق منجزات أكبر وأفضل، ولتظل عجلة التنمية في تقدم ونمو. ومن هذا نستشعر بأن السلطان كان دائما ينظر إلى الأمام ويستشرف المستقبل ويحتفل سنويا مع شعبه بالمنجزات المحققة باعتبارها استراحة محارب ينطلقون بعدها للبناء وصنع الملاحم.

سابعا: تعزيز المكاسب وإحداث مزيد من التغيير: عندما يرى المواطنون بأن المنجزات تتحقق على أرض الواقع، الإنجاز تلو الإنجاز، وأن ما يقال ويخطط له يرى رأي العين، تتولد لديهم الثقة بالقائد وترتفع المصداقية في مشروعه التنموي. هذه المنجزات وتلك الثقة سهلت على السلطان وحكومته إحداث تغييرات أكبر على مستوى تفكير وقناعات عامة الشعب، مما ساعد على النمو والازدهار، فخذ مثالا بسيطا في شأن تعليم المرأة، ففي بداية السبعينيات كان تعليم المرأة يجد مقاومة من أولياء الأمور، لكن مع توالي عقد البرامج الحكومية والأهلية المكثفة من التوعية والتثقيف تعلمت المرأة وتخرجت وانخرطت في سوق العمل، حتى أصبحت الآن تحتل أعلى المراتب المهنية والوظيفية. ومن هنا يتبين لنا بأن التغيير في شكل الدولة وتطورها عاما بعد عام ساعد في إحداث مزيد من التغييرات النفسية والمعرفية والسلوكية لدى عامة الشعب.

ثامنا: استدامة التغيير وترسيخ طرق جديدة في الثقافة: أضحت رؤية السلطان قابوس واقعا بعد خمسين عاما من النهضة المباركة، وأصبحت هذه الرؤية كذلك منهاج عمل تحركه وتدفع به إلى الأمام دولة المؤسسات، فالشباب المتعلم من الجنسين له الدور الكبير في إدارة دفة البلاد، والجميع أمسى يشترك في الحفاظ على المنجزات، بل ويعمل ويسهم ويبتكر في سبيل رفعة هذا البلد العظيم. والشاهد بأن السلطان أسس للتغيير والتحديث المستمر، حتى أصبح التغيير والتجدد والتطور ثقافة لدى الشعب العماني، فالكل يريد أن يرقى بنفسه ويضع بصمته ويحفر اسمه في سجل الإنجازات.

الخلاصة أن السلطان قابوس – طيّب الله ثراه- تمكّن بالفطرة وبالعلم من إحداث تغيير إيجابي كبير في وطننا الغالي عمان، وبنسبة مطابقة 100% مع أفضل منهجيات التغيير العلمية التي تدرس في أعرق الجامعات العالمية. وحيث إن السلطنة تمتلك هذه التجربة السلطانية الثرية والغنية في قيادة وإحداث التغيير، فإنه لحري بقادة مؤسساتنا العامة والخاصة الاستفادة من شموليتها وتفاصيلها، والنهل من معينها الذي لا ينضب، خصوصا وأننا نعيش عصر الثورة الصناعية الرابعة، وهو العصر الذي نحتاج معه إلى بناء قادة تغيير متنورين يعملون بروح الفريق الواحد ويستندون إلى قيم أخلاقية وعلمية متجددة.

Your Page Title