د. رجب بن علي العويسي
حظي التعليم في النطق السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- بحضوره الواسع بين سطور الخطاب، إما تصريحا مباشرا به أو تعريضا بنواتجه وأثره، وأبعاده الحضارية والإنسانية والعلمية والأمنية والاقتصادية والإنتاجية، فالتعليم في رؤية جلالته بوابة المستقبل، وصناعة التغيير الممنهج، وإنتاج الوعي وبناء الإنسان وتقدم الأوطان، ومسؤوليته اليوم تتجاوز حدود ممارسة مؤسساته، لتحلق في فضاءات الحياة، آخذة بيد الإنسان إلى ما فيه خيره وسعادته وأمن وطنه واستقراره، لذلك فإن ما يحصل من تحولات متسارعة في مختلف جوانب الحياة تضع التعليم أمام مسؤولية مواكبتها، وإنتاج حلول واقعية في مواجهتها، وترقية سلوك المجتمع في التعاطي معها، بروح متجددة، وعقلية منفتحة، وثقافة رصينة، وفكر متزن يتعايش الجميع تحت مظلته، ويعيش الجميع على نتاج إنجازاته.
لقد وصف خطاب الحادي عشر من يناير يوم تولي جلالة السلطان مقاليد الحكم في البلاد، للتعليم بقوله “وأقام هياكل ثابتة ودائمة للتعليم بجميع مستوياته وتخصصاته، فنهلت منه الأجيال وتشربت علمًا ومعرفة وخبرة” مدخلا للتذكير بأن ما تحقق من نهضة تعليمية واسعة عززتها هياكل التعليم وتخصصاته؛ محطة لالتقاط الأنفاس وانطلاقة أقوى للمضي قدما في تعظيم ما تصنعه من محطات العطاء والإنتاجية وتعزيز نهضة الوعي وبناء الخبرة الوطنية التي ساهمت في استمرارية النهضة وتجددها وقدرتها على التكيف مع ظروف المستقبل ومتغيراته، ولأن الغاية من وجود هذه الهياكل والتخصصات ليس لذاتها، بقدر ما هي صناعة للإنسان القادر على العيش في ظلال التغيير وفهم مداخل التطوير، وصناعة الذات المؤمنة بالتجديد والتي ستكون مسؤوليتها المستقبلية خير شاهد على استفادتها من محطات التعليم ومرتكزاته، وتجسيدها هذا التطور والتقدم الحاصل في منظومة التعليم لتكون محطة انطلاقة قادمة للمستقبل، مستحضرة الأصالة العمانية والثراء الفكري والرصيد الحضاري والإرث التاريخي الذي يؤسس لتعليم منتج يتناغم مع الطموحات ويلبي الاحتياجات ويقف على مكمن التطوير ويؤسس في إنسان هذا الوطن القوة والعزيمة والإرادة.
كما أكد خطاب الثاني والعشرين من نوفمبر على القيمة المضافة للتعليم في مسيرة بناء عمان، وقد ورد في النطق السامي “وإن الاهتمام بقطاع التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته وتوفير البيئة الداعمة والمحفزة للبحث العلمي والابتكار سوف يكون في سلم أولوياتنا الوطنية، وسنمده بكافة أسباب التمكين باعتباره الأساس الذي من خلاله سيتمكن أبناؤنا من الإسهام في بناء متطلبات المرحلة المقبلة”؛ مجسدا لمفهوم إنتاجية التعليم وترسيخ منظومة التعليم المنتج، القادر على رسم علامة فارقة في حياة المواطن العماني، وعبر نقل التعليم إلى مسارات التنويع والتطوير من خلال هندسة عملياته، وتطوير ممارساته، وإنتاج القوة في مناهجه ومحتواه ومختبراته وعناصره وأدواته، وآلياته وبرامجه، ومساهمته في اقتصاد المعرفة ودخوله في ميدان المنافسة لذلك كانت الدعوة إلى أن يسلك التعليم مسار القوة القائمة على توفير البيئة الداعمة والمحفزة للبحث العلمي والابتكار وريادة الأعمال، وصقل التجارب وإنتاج الذات، وتعزيز حضور طلبة التعليم في ميدان العمل الوطني، بما يستدعيه ذلك من تحولات في منظومة التعليم، وإعادة تقييم سياساته وخططه وبرامجه ومراجعة أدواته وتفاصيل الممارسة التعليمية، والتركيز على برامج التعليم ومساقاته وأنواعه الأكثر استحداثاً للوظائف وإنتاجا للفرص، والاتجاه ببيئة التعليم إلى التثمير في المراكز البحثية المتخصصة في مجالات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة، بحيث تصبح المدارس والمعاهد والجامعات مراكز تعلم نشط ومحطات اختبار وتجريب وتقييم وإعادة تطوير العلوم الطبيعية والتجريبية والطبية والاقتصادية، وتعزيز حضور العلوم الاجتماعية والإنسانية وعلم النفس والفلسفة في بناء شخصية المواطن، وإكسابه المهارات الناعمة التي يستطيع من خلالها أن يتكيف مع الواقع الاقتصادي الجديد ويستجيب لتحدياته ويستقرئ تجلياته في حياته اليومية، فينطلق بهمة قوية وإرادة صلبة وعزيمة مستمرة.
إنّ عُمان وهي تبدأ فصلا جديدا في مسيرتها التنموية بالإقرار السامي بتنفيذ رؤيتها المستقبلية “عمان 2040″، وسط مراجعات كبيرة شهدتها المنظومات الإدارية والمالية والاقتصادية والقرار الوطني والتشريعات والقوانين، وعبر نهج واضح وخطوط سير متقنة عملت على إحداث تحول نوعي في مسيرة العمل الوطني بما يضمن تكيفها مع أولويات الرؤية، واستحضار حجم التحديات التي تواجهها هذه المرحلة والأزمات والجوائح التي باتت تضع التعليم أمام مسؤولية رصد دقيق لهذه الأحداث وتوفير الممكنات العلمية والبحثية والابتكارية الداعمة لها، وإنتاج الحلول وتوفير البدائل وتمكين الطلبة من ابتكار حلول الواقع وتعزيز براءات الاختراع، وتنشيط مسار ريادة الأعمال في ظل ما فرضته جائحة كورونا (كوفيد19) من تحديات وواقع جديد، وقد ورد في خطاب جلالة السلطان في العيد الخمسين للنهضة “تُمثّلُ الأزماتُ، والتحدياتُ، والصعوباتُ سانحةً لأنْ تختبرَ الأممُ جاهزِيتَها، وُتعَزِّزَ قُدراتِها، وقد فتحت الأزمةُ الراهنةُ المجالَ للطاقاتِ الوطنيةِ؛ لتُسهِمَ بدورِها، في تقديمِ الحلولِ القائمةِ، على الإبداع ِوالابتكارِ وسَرَّعَت من وتيرةِ التحولِ إلى العملِ الرقميِّ وتوظيفِ التقنيةِ، في مجالاتِ العملِ الحكوميِّ والخاص”؛ لذلك تقع علي التعليم مسؤولية الاستفادة من هذه الأزمات في تطوير ذاته ومراجعة سياساته وبناء قدراته وتصحيح ممارساته وتجديد أهدافه وتعزيز أولوياته، وإعادة إنتاج واقعه بما يتناغم مع معطيات المرحلة، فيقف على أبجديات التحول ويعالج المطبات الحاصلة بكفاءة وفاعلية، في ظل محددات عملية ونماذج تطبيقية ومحاكاة تعزز من وجود الابتكار وفرص التجريب ومختبرات للدراسات التجريبية، بما يمكن أن يتيحه ذلك من فرص لنمو ثقافات أخرى كالنوعية والتنافسية والإنتاجية التي بدورها تصنع لمنظومة التعليم حضورا قويا في الواقع الاقتصادي الوطني، ومؤشرا لجودة التعليم وتوطين أفضل الممارسات التعليمية الناجحة وتصديرها للعالم.
أخيرا؛ فإن الرؤية السامية لتعليم منتج، تضع أمام مؤسسات التعليم اليوم بدون استثناء مسؤولية تصحيح أوضاعها وإعادة هيكلة واقعها، وضبط اختصاصاتها، وتقنين أدواتها، وتعزيز أفق الشراكة بينها، بما يضمن توظيف الرأس المال البشري الاجتماعي وتقوية حضوره في مسيرة بناء عمان المستقبل، ويضع عمان في الخريطة العالمية للبحث العلمي والريادة والابتكار والمنافسة والإنتاجية.