د. رجب بن علي العويسي – خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
تعد فلسفة التعليم التي صدرت في عام 1978 وأعيد تطويرها في فترات متلاحقة إلى أن صدرت بحلتها الجديدة في عام 2017، مرجعية وطنية تستهدف توجيه مؤسسات التعليم نحو تبني أفضل الاليات والاستراتيجيات التي تؤسس لتعليم عالي الجودة، وإطارا وطنيا تنطلق منها مؤسسات التعليم بمختلف أنواعه ومراحله ومستوياته في التعاطي مع الأولويات الوطنية، لذلك يمكن تناولها كمدخل إطاري في الإجابة عن التساؤلات التي يطرحها المجتمع حول مستقبل التعليم في مواجهة جائحة كوفيد 19، انطلاقا من ميزاتها التالية:
أنها أعطت الإرث الحضاري العماني حضورا مهما في استراتيجيات العمل الوطني القادمة، كونه المنطلق الذي يضمن لهذه الجهود قدرتها على صياغة مشروع حضاري عماني يجسد الروح العمانية العالية، والمبادئ والاخلاقيات والأولويات التي تعتبر أعمدة رئيسية للإصلاح التعليمي القادم.
سعت إلى تكوين مواطن عالمي بما يحمله من طموحات هذا العالم وتوجهاته، والمشاركة في رسم نجاحاته، وصناعة التحول في ممارساته بما يتناغم مع السياسة العمانية والثوابت الوطنية.
أعطت مساحة مرونة أوسع لمؤسسات التعليم في تبني سياسات وخطط وبرامج تعليمية أكثر نضجا وارتباطا بالواقع العماني تضمن التنويع في مساراته وتعدد مداخله والتوسع في محتواه وأنشطته وبرامجه بما يتكيف مع الظروف المحيطة.
لقد أفردت فلسفة التعليم مبادئ رئيسية لتحقيق هدف تجويد التعليم والتي يمكن الإنطلاقة منها في التعاطي مع متطلبات هذه الجائحة وتأثيراتها على قطاعات التنمية الوطنية المختلفة، وبالشكل الذي يضمن استدامة انتاج الحلول والبدائل ومستلزمات التعليم، واساليب الدعم المتناغمة او المحققة لطبيعة هذا الهدف، ومن ذلك مثلا:
أفرد المبدأ (8) ” التربية من أجل التنمية المستدامة “، مساحة واسعة لدور التعليم في تجسيد أبعاد التنمية المستدامة وبشكل أخص ما يتعلق منها بحماية البيئة وصون مكوناتها ، وتحقيق الأمن الغذائي والمائي، وإدارة الجوائح والكوارث والمخاطر الطبيعية، والاستخدام الرشيد للموارد والثروات الوطنية، والارث الحضاري والثقافي، وجودة الحياة الصحية ، والطاقة المتجددة، والمسطحات الخضراء، وثقافة السلوك الاستهلاكي الرشيد، وهي مرتكزات باتت لها حضورها في مناهج التعليم، وأهميتها في تعزيز الوعي المجتمعي كما أن وعي المتعلمين بها له أثره الايجابي في التعاطي مع معطيات جائحة كورونا ورسم صورة إيجابية فاعلة تضمن تحقيق التوازن في السلوك الإنساني الموجه نحو هذه الجائحة.
المبدأ (9) ” التعليم مسؤولية وشراكة مجتمعية”، أفصح هذا المبدأ عن نهج المشاركة المجتمعية في التعليم، وما تطلبته جائحة كورونا في ظل تطبيق نظام التعليم عن بعد من مشاركة ابوية أسرية فاعلة أعطت التعليم عن بعد رغم الصعوبات التي لازمته سواء أكانت الادارية والهيكلية والمالية والتنظيمية والتشريعية ، فسحة اكبر للانتشار، وقبوله من المجتمع واهتمامه به، وضمان انخراط الطلبة والمعلمين فيه، رغم بساطة امتلاكهم للثقافة الحاسوبية، ناهيك عن تدني مستوى التوجيه الأمثل لهم في ظل اعتماد بعض مؤسسات التعليم على نظم التعليم المجانية مفتوحة المصدر الذي شكل عبئا كبيرا في اتقان المتعلمين والمعلمين وأولياء الأمور لمفرداته والغوص في تفاصيله.
المبدأ ( 10) “تعليم عالي الجودة للجميع”، هذا المبدأ يأتي تجسيدا عمليا لمبدأ التعليم الجيد بما حمله من اهداف التعليم الذاتي المستمر ، والتأكيد على المعارف الضرورية والمهارات الأساسية في ظل الشيوع المعرفي، وحق كل طالب في التعلم بغض النظر عن قدراته وخصائصه، وتأكيد أهمية رفع كفاءة وجاهزية مؤسسات التعليم وادارتها في الارتقاء بأدائها وتطوير ذاته، الأمر الذي افصحت عنه جائحة كورونا وعجز مؤسسات التعليم عن توفير الحلول المناسبة والبدائل التي تساعد المجتمع على مواجهة المرض او تخفيف العبء النفسي والاقتصادي والصحي والفكري الناتج منه عن الاسر والأفراد.
المبدأ (12)” مجتمع المعرفة والتكنولوجيا” ، يأتي هذا المبدأ كأولوية وطنية أفصحت عنها جائحة كورونا، واتجاه التعليم إلى الاستفادة من التقنية وتوظيفها لضمان استمرارية تعلم الطلبة في ظل حالة الانقطاع الحاصلة في التعليم ما قبل الجامعي، نظرا للمخاوف المرتبطة بانتشار المرض بين مجتمع الطلبة، مما جعل العالم إلى بناء نظام تعليمي عبر نظام التعليم عن بعد بهدف تحقيق تعلم نشط يرافق المتعلم في كل الظروف والمتغيرات، ويحصل عليه بكل سهولة ويسر، ويتعامل مع أنشطته وبرامجه وفق معايير محاكاة تتناغم مع التعلم التقليدي او المباشر، ومحاولة توفير تعليم مدمج يجمع في خصائصه بين التعليم الرقمي عن بعد والتعليم الصفي المباشر لضمان تحقيق هدف التعليم للجميع في حصول جميع الطلبة من الجنسين بمختلف مستوياتهم الدراسية في مرحلة التعليم الأساسي على حقهم في التعليم.
أخيرا فإن مقاربة فلسفة التعليم واسقاطها على دور قطاع التعليم في مواجهة كوفيد19، يستدعي جهدا وطنيا استثنائيا، يأخذ في الاعتبار أفضل الممارسات الوطنية المتحققة في العقود الخمسة الماضية حول التعليم، مستحضرا جوانب التفرّد التي حققتها وانعكاساتها على الواقع الاجتماعي والاقتصادي والهوية الوطنية، إضافة إلى المبادرات القطاعية والفردية للخطط الخمسة وخطة التوازن المالي وخطة التحفيز الاقتصادي، واستراتيجية التعليم 2040، من حيث:
إعادة ترتيب الأولويات الوطنية في ظل معطيات جائحة كورونا الواردة في فلسفة التعليم، وتحديد الأهداف والغايات والاستراتيجيات والمؤشرات التنفيذية لتطبيقها في الواقع.
تحقيق شراكة تعليمية فاعلة ومقننة قادرة على تكييف المؤسسات التعليمية ذاتها على التعاطي مع الأولويات القادمة وترتيب اوضاعها وضبط مسار العمل.
التركيز على المبادرات التعليمة الجادة والمشروعات العملية الواقعية في التنفيذ، والتي تتناغم مع أولويات رؤية عمان 2040 وتستجيب للجهود القطاعية الأخرى الاقتصادية والاستثمارية والخدمية وقطاع اللوجستيات والقطاع الطبي في مواجهة كوفيد 19 وعبر استقراء الأحداث المرتبطة بالجائحة وإيجاد الحلول المبتكرة في التعاطي معها .
البحث في أفضل الممارسات الوطنية ( المبادرات والأعمال والنماذج والمشروعات ) التي انتجها قطاع التعليم والقطاعات الأخرى والاستفادة منها وإعادة تطويرها وتبنيها وتقديم التجارب بشأنها حسب طبيعة هذه المبادرات، لتقديم حلول ناجعة بشأنها، ومبادرات جادة يستفاد منها في طرائق التدريس ونماذج العمل الوطني.
استحضار التحديات التي رافقت التعليم في تعاطيه مع الجائحة لضمان الانتقال بالتعليم من الاستهلاكية وانتظار التعليمات وتنفيذ القرارات، إلى كونه مساهما استراتيجيا ومؤثرا فاعلا في صناعة بدائل المعالجة والحلول للحد من تأثير كورونا على قطاعات التنمية بالسلطنة، وعبر ما يطرحه من بدائل الاستدامة في الانشطة الاقتصادية والتجارية والصناعية والخدمات والسياحة والبيئة.
