أثير- أحمد الشبيبي، اختصاصي استشارات أسرية
يُعْتبَرُ الْكَذِبُ من أخْطَرِ الآفَاتِ التي يُمكِنُ أنْ يُصابَ بها الأَطْفالُ وتُصاحِبُهُم عَلى مدَى حَياتِهم، وعلى الرَّغْمِ من اتِّفاقِ الجَميعِ على كَوْنِ الكَذِبِ سُلوكاً غيرَ أخْلاقِي، إلاَّ أنَّ أُسْلوبَ الأُسَرِ في التَّعامُلِ مع الْكَذِب عندَ الأَطْفالِ، يَخْتلِفُ باخْتِلافِ مَعرِفَتِهِم بهذهِ الآفَةِ وَوَعْيِهِم بِجُذورِها النَّفْسِية، ولذلكَ ارْتَأَيْتُ أن أُناقِشَ مَعَكُم في هذا المَقَالِ عبرَ صحيفةِ “أثير” مَفهُومَ الْكَذِبِ وأنْواعَهِ، وأن نَتَبَيَّنَ الأَسْبابَ والدَّوافِعَ التي تَحْمِلُ الأَطْفالَ على الْكَذِبِ، ونَخْتِمُ بالحَديثِ عن سُبُلِ عِلاجِ هذه الآفَةِ الْخَطيرَةِ.
أولا: مفْهُومُ الكَذِبِ وأنواعُه:
أولا: مفْهُومُ الكَذِبِ وأنواعُه:
الكَذِبُ كما هو مَعلُومٌ، قَوْلُ شيءٍ يُخالفُ الوَاقِعَ، سَواءٌ كان ذلكَ بِإِثْباتِ ما ليس ثَابِتًا، أو بِنَفْيِ ما هو ثَابِتٌ، وعلى الأَوْلِياءُ الاِنْتِباهُ لهذه الآفَةِ الأَخْلاقِيةِ قبل تَفاقُمِهَا وتحَوُّلِها إلى عادةٍ راسِخَةٍ، وقد حَذَّرَنا الرَّسُولُ الكَريمُ من خُطورَةِ الْكَذِبِ وسُوءِ عاقِبَتِهِ في أحادِيثَ كَثِيرَة، منها قوله عليه الصلاة والسلام: “وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حتى يُكْتَبَ عندَ اللهِ كَذَّاباً”، فكِذْبَةٌ بعدَ أُخرى، ومَرَّةً تِلْوَ مرَّة، حتى يَطْبَعَ اللهُ على قَلْبِ الكاذِبِ، ويَجْعَلَ الكَذِبَ شِيمَةً مُلازِمَةً له.
والْكَذِبُ في حَدِّ ذاتِهِ أَنْواعٌ مُتَعَدِّدَةٌ، نُبَيِّنُها ونُعَرِّفُها فيما يلي:
1. الكَذِبُ الخَيالِيُّ: حيثُ يَخْتَلِقُ الطِّفْلُ قِصَصا وحِكاياتٍ مِن وحْيِ خَيَالِهِ، ويَدَّعِي أنَّهُ رأى وُحُوشاً مُخيفَةً أو كائِناتٍ غَرِيبَةً، أو أنَّهُ حَلَّقَ في الأَجْواءِ وكَلَّمَ الْحَيَواناتِ وما شَابَهَ، وهذا النَّوْعُ مِن الكَذِبِ نابِعٌ مِن سِعَةِ خَيالِ الطِّفْلِ وخُصُوبَتِهِ.
2. الكَذِبُ الالْتِباسِي: وَيَلْجَأُ الطِّفْلُ إلى هذا النَّوْعِ من الكَذِبِ عندَما يَخْتَلِطُ عليه مَوْضُوعَانِ أو مَوْقِفَانِ، فَيَبْدَأُ في الْخَلْطِ بين الأُمورِ، ويَقُولُ كَلاَماً غيرَ صَحِيح.
3. الْكَذِبُ الادِّعَائِي: وهو أن يَدَّعِي الطِّفْلُ امْتِلاكَ شيءٍ يَعُودُ لِغَيْرِه؛ حَيْثُ يَدَّعِي أن هذه اللُّعْبَة أو القَلم مِلْكُهُ، وهي في الْحَقيقَةِ مِلْكُ طِفْلٍ آخَر.
4. الكَذِبُ النَّفْعِي: وهو ذلكَ النَّوْعُ من الْكَذِبِ الَّذِي يَلْجَأُ إليه الطِّفْلُ لِتَحْقِيقِ مَنْفَعَةٍ خَاصَّةٍ، ونَيْلِ مَصْلَحَتِهِ التي لم يتمَكَّنْ من الوُصولِ إليها، كأَنْ يَرْغَبَ في اللَّعِبِ، فَيَدَّعِي أنَّهُ أَنْهَى واجِباتِهِ المَدْرَسِية، لِتَسْمَحَ له وَالِدَتَهُ بِاللَّهْوِ واللَّعِبِ، في حينِ أنَّهُ لم يُنْجِزْها بَعْدُ.
5. الْكَذِبُ الإنْتِقَامي: وهو نَوْعٌ خَطِيرٌ منَ الْكَذِبِ، حيثُ يَلْجَأُ الطِّفْلُ إليه لِلانْتِقامِ من شَخْصٍ أَسَاءَ إليه، مُدَّعِيا أنَّ ذلك الشَّخْصَ ضَرَبَهُ أو سَبَّهُ، من أجْلِ أنْ يَتَعَرَّضَ ذلِكَ الشَّخْصُ للْعِقَابِ، ويَشْعُرُ براحَةٍ دَاخِلِيَّةٍ لِكَونِهِ قدِ انْتَقَمَ مِمَّنْ أساءَ إليه.
6. الكَذِبُ المُزْمِنُ: وهذا أَسْوَءُ أنواعِ الْكَذِبِ؛ لأَنَّ الطِّفْلَ لا يَكْذِبُ في هذه الحَالَةِ منْ أَجْلِ هدَفٍ مُحَدَّد، بل لأَنَّهُ لمْ يَعْتَدْ قَولَ الحَقِيقَةِ فَقَطْ، ولا تُطاوِعُهُ لِقَولِ الحَقِيقَةِ، بل يَجِدُ لِسانَهُ أَطْوَعَ بِاخْتِلاقِ الْكَذِبِ وتَزْيِيفِ الوَقَائِعِ، وهذا نَوْعٌ مَرَضِيٌّ يَتَطَلَّبُ تَدَخُّلَ مُخْتَصٍّ لِمُسَاعَدَةِ الطِّفْلِ عَلَى التَّعَافِي.
ثانيا: دَوَافِعُ الْكَذِبِ وأَسْبَابُه:
ثانيا: دَوَافِعُ الْكَذِبِ وأَسْبَابُه:
بَلَغَ بِنا الْحَدِيثُ الآن إلى نُقْطَةٍ أُخْرَى في غَايَةِ الأَهَمِّيةِ، وهي المُتَعَلِّقَةُ بأَسْبابِ الْكَذِبِ لدَى الأَطْفالِ؛ فَالطِّفْلُ يَخْرُجُ إلى هذهِ الْحَيَاةِ صَفْحةً بَيْضَاء، فمِن أيْنَ تَتَسَرَّبُ إليهِ هذه الآفَةُ الخُلُقِيةُ السَّيِّئَةُ؟ وسَنُرَكِّزُ فِيمَا يلِي على أرْبَعَةِ أَسْبَاب، وهي:
أ- التَّقْلِيدُ والمُحَاكَاة: يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّ المَصْدَرَ الأَوَّلَ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الأَطْفَالُ سُلُوكَهُم ويَسْتَوْرِدُونَ مِنْهُ طِباعُهُم هُم الوالِدَانِ والمُرَبُّونَ، والمُحِيطُ الْقَرِيبُ الذِي يُخالِطُهُ الطِّفْلُ بِاسْتِمْرَار، فَإِذا رَأَى الطِّفْلُ أَنَّ مَنْ حَوْلَهُ يَكْذِبُونَ ولَا يَقُولُونَ الْحَقِيقَةَ، فَإِنَّهُ سَيَبْدَأُ في تَقْلِيدِهِم، والاِسْتِفَادَةِ بدَوْرِهِ من المَنَافَعِ العَاجِلَةِ وَالسَّهْلَةِ الَّتِي يُحَقِّقُهَا الْكَذِبُ، ونُلاحِظُ لِلْأَسَف، أنَّ الأَبَوَيْنِ والأُسْرَةَ بِشَكْلٍ عَام، تَسْتَعْمِلُ الكَذِبَ مع الأَطْفالِ في مُناسَبَاتٍ كَثِيرَةٍ، فقَدْ تَقُولُ الأُمُّ لِلطِّفْلِ مَثَلا: اذْهَبْ عِنْدَ والِدِكَ لِيًعْطِيكَ الْحَلْوَى، وهي تَعْلَمُ بأَنَّ أَباهُ لَنْ يُعْطِيهِ شَيْئا، وإنَّمَا تُريدُ أن تَتَخَلَّصَ من إزْعَاجِهِ بَعْضَ الوَقْتِ، وبذلِكَ تكُونُ قدْ أَعْطَتْهُ دَرْساً في الْكَذِبِ.
ب- الشُّعُورُ بالنَّقْصِ: من المُلاَحَظِ أنَّ حدِيثَ الأَطْفالِ مع بَعْضِهِم يَتَمَحْوَرُ في الغَالِبِ حوْلَ التَّفَاخُرِ والتَّبَاهِي بِالبَيْتِ أو السَّيَّارَةِ أو الهَاتِفِ أو ما شَابَه، وعِنْدَمَا يَشْعُرُ أحَدُ الأَطْفالِ بأنهُ لا يَمْلِكُ ما يَتَبَاهَا به على أصْدِقَائِه، يَبْدَأُ في الكَذِبِ، ويَدَّعِي بأنَّ والِدَهُ يَمْتَلِكُ سَيَّارَةً فَاخِرَةً، أو أنَّ لَدَيْهِ هاتِفاً باهِظَ الثَّمَنِ في المَنْزِلِ، أو أنَّهُ يذْهَبُ إلى مدينَةِ الأَلْعابِ كلَّ أُسْبُوعٍ، وذلِكَ بِسَبَبِ النَّقْصِ الَّذِي يُحِسُّ بهِ في داخِلِهِ، وَيَخَافُ من أنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ الآخَرُونَ نَظْرَةَ ازْدِرَاءٍ أو مَا شَابَهَ.
ج- الْهُرُوبُ من العِقَابِ الْقَاسِي: إذا كانَ العِقَابُ القَاسِي يَدْفَعُ بالْكِبَارِ والرِّجَالِ الأَشِدَّاءِ إلَى الْكَذِبِ، فمنَ الْبَدِيهِيِّ أنْ يَضْطَرَّ الأَطْفالُ لِلْكَذِبِ هُرُوباً منَ الْعِقَابِ القَاسِي والمُؤْلِمِ، ومِنْ هُنَا يَكُونُ للآباءِ والمُدَرِّسِينَ دَوْرٌ كَبِيرٌ في دَفْعِ الأَطْفالِ إلى الْكَذِبِ، بِسَبَبِ سُوءِ طَرِيقَتِهِم في التَّرْبِيَّةِ، واعْتمَادِهِمْ على العِقَابِ الْبَدَنِي المُؤْلمِ أو الكَلَامِ الجَارِحِ.
د- عَدَمُ التَّفْرِيقِ بين الْوَاقِعِ والْخَيَالِ: السَّبَبُ الرَّابِعُ هو أنَّ بَعْضَ الأَطْفالِ لا يَسْتَطيعُ التَّفْريقَ بينَ ما هُوَ خَيَالٌ من إِنْتاجِ عُقولِهِم وأوْهَامِهِم وما هو وَاقِعِي، وبِسَبَبِ هذا الْخَلْطِ بينَ الخَيالِ والْوَاقِعِ، يُخْبِرُنا الطِّفْلُ بِأَشْياءَ مِن وَحْيِ خَيَالِهِ لا صِلَةَ لها بالوَاقِعِ.
ثالثا: عِلَاجُ آفَةِ الكَذِبِ عندَ الأَطْفالِ:
ثالثا: عِلَاجُ آفَةِ الكَذِبِ عندَ الأَطْفالِ:
كَمَا نَقُولُ دَائِما: إذَا عَرَفْنَا أَسْبَابَ أيِّ آفَةٍ نَكُونُ قَدْ عَرَفْنَا جُزءًا من عِلَاجِهَا والتَّعَامُلِ مَعهَا، وذلكَ بالْعَمَلِ على مُحارَبَةِ الدَّوَافِعِ والأَسْبابِ التي تَجُرُّ الأَطْفَالَ إلى الْكَذِبِ، وتَدْفَعُهُم إلى اخْتِلَاقِهِ والاِعْتِمادِ عليْهِ في حَيَاتِهِم، وبِنَاءً على ذَلِكَ، فإنَّ أوَّلَ نَصِيحَةٍ نُوَجِّهُهَا لِأَوْلِياءِ الأُمُورِ: هي أنْ يَكُونُوا قُدْوَةً حَسَنَةً لأَبْنائِهِمْ، وأَنْ يَجْتَنِبُوا الْكذِبَ في حَيَاتِهِم بِشَكْلٍ عَامٍ، وأَنْ يَقُولُوا الصِّدْقَ مهْمَا كَلَّفَهُمُ الأَمْرُ، وبِذَلِكَ يَتَعَلَّمُ منهُمْ أَطْفالُهُم مَبْدَأَ الصِّدْقِ وَالتَّعَامُلَ بِهِ.
وَنُضِيفُ لَهُمْ نَصِيحَةً أُخْرَى في غَايَةِ الأَهَمِّيَةِ، وهي إِشْبَاعُ رَغَبَاتِ الأَطْفَالِ، وَتَحْقِيقُ ما يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ لَهُم من أُمْنِياتٍ، دُونَ إِفْراطٍ ولَا تَفْرِيطٍ، وَتَعْلِيمُهُمْ بأَنَّ القَنَاعَةَ كَنْزٌ، وأنَّنَا في هذه الحَيَاةِ لَا نَسْتَطِيعُ تَحْقِيقَ كُلِّ مُتَطَلَّباتِنَا، فَلْنَرْضَ بِمَا يَسَّرَ اللهُ لَنَا، وَنَدْعُوهُ لِيَرْزُقَنَا مَا نُرِيدُ.
كَمَا أَنْصَحُكُم أَيُّهَا الأَحِبَّةُ بِاجْتِنَابِ الْعِقَابِ بِكُلِّ أَنْوَاعِهِ، وَخَاصَّةً الْعِقَابَ الْجَسَدِيَّ والنَّفْسِيَّ الْقَاسِي؛ لِأًنَّهُ يُؤَدِّي إلى أَضْرَارٍ خُلُقِيَّةٍ وَنَفْسِيةٍ مَعَ مُرُورِ الْوَقْتِ، وَيَضْطَرُّ الأَطْفَالُ إلى تَعَلُّمِ سُلُوكَاتٍ سَيِّئَةٍ، نَاهِيكَ عَنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ اللَّطْمِ وَالضَّرْبِ الذِي يُخَلِّفُ آثَاراً وعَلامَاتٍ جسَدِيَّةٍ، وَيُمْكِنُ أنْ نُضِيفَ إِلَيْهَا الْعِقَابَ الذِي يُخَلِّفُ آثَاراً نَفْسِيةً.
وَلَا نَنْسَى التَّذْكِيرَ بِأَهَمِّيَةِ عَدَمِ الضَّغْطِ على الأَطْفَالِ، وتَحْمِيلِهِم فَوْقَ طَاقَتِهِم وإمْكَانَاتِهِم؛ لأَنَّ ذَلِكَ سَيَضْطَرُّهُمْ إِلَى اخْتِلَاقِ الأَكَاذِيبِ لِتَخْفِيفِ الْعِبْءِ الذِي نُلْقِيهِ عَلَى كَاهِلِهِمْ.
وبِمِثْلِ هَذِه الخُطُوَاتِ التَّرْبَوِيَةِ الْعَمَلِّيَةِ، يُمْكِنُكُمْ أَيُّهَا الآبَاءُ الرَّائِعُونَ، تَجْنِيبُ أَبْنَائِكُمْ من الْوُقُوعِ في الْكَذِبِ، وَمُعَالَجَتُهمْ مِنْهُ إِذَا ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ بَوَادِرُه.