د. رجب بن علي العويسي – خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
الابتكار لغة حالمة، تقوم على التجديد، وتبحث عن الجديد، وتستهدف إعادة إنتاج الموارد والإمكانات بطريقة أكثر استدامة وابتكارية، لذلك فهو لغة متحاورة مع النفس، متفاعلة مع الواقع، تمتلك قوة التأثير في توجيه المدركات الحسية والمعنوية للكفاءات البشرية الوطنية في صناعة الفارق، يبحث عن التغيير في الأعماق، ويمتلك القوة في اختيار ما يناسب من موجهات وما يبرز من آليات، نظرا لتعدد البدائل التي يعمل على صناعتها وابتكار أدواتها لتظهر بصورة أخرى أقرب إلى التوقعات، متناغمة مع مسيرة العطاء الإنساني، لذلك لا يقبل المعالجات السطحية المهمشة، أو البدائل المعقدة، أو الأحداث الرتيبة لأنه يتفاعل مع منظومة أكثر توازنا وحيادية، مع إضافة نكهات التجديد التي تتجه بالمنتج الابتكاري نحو الاستثنائية والنوعية مع ضمان الجودة والفاعلية والكفاءة فيه، وبعد أن يصل الابتكار إلى مسارة ويشتد عوده، ويستند إلى قواعده، وينضج ثمره، ويزهر ورق، وتنمو قواعده وأفرعه وتتماسك أغصانه وتستوعب البيئة احتياجاته للنمو ، تبدأ قاعدة العمل الجديدة ، ومرحلة العمل القادمة لتتواكب مع حجم الجهد المبذول والناتج المأمول التي لا غنى عنها لوضع الابتكار موضعه الصحيح وقدرته على إثبات حضور له في واقع الإنجاز، لتبدأ مرحلة البحث عن وطن للابتكار يأخذ بيده ويستقر خلاله في موضعه وتبدأ عملية البحث عن التساؤل، كيف يمكن أن نصنع من لغة الابتكار محطة انطلاقة جديدة، لتظهر في تعدد المختبرات، وتنوع الأدوات، والتوسع في الفرص والمبادرات، والأنشطة الاقتصادية والاستثمارية وزيادة مساحات البحث وفرص المشاركات، وتعزيز فرص التمكين والتدريب وبناء القدرات، وتسهيل التشريعات، وتفعيل النماذج، وتوفير حاضنات للابتكار قادرة على احتواء الكفاءة الوطنية ، في تفاصيل مواهبها، وتعدد ابتكاراتها، وضبط الأدوات وتغيير الممارسات ونقل التوجهات إلى إطار عمل يتفق الجميع على شكله ومحتواه.
وبالتالي الحاجة في أن تسلك منظومة الابتكار الوطنية مسلك الواقعية في الطرح، في سياساتها وتشريعاتها، وخططها، وبرامجها، ومبادراتها، بعيدا عن التكلف والتنظير، والتعقيد والتكرارية، في لغة تقترب من اهتمامات المواطن وتستقرئ هواجسه، وتستوعب احتياجاته، وتتفاعل مع أرصدة القوة لديه، وأن يتجه إلى الواقع الفعلي محتضنا المورد البشري بما يمثله من طلبة التعليم ، والعاملين بالمؤسسات، وأصحاب المواهب والقدرات العليا لتحويل أفكارهم إلى ابتكارات تظهر على الأرض، تتبناها المؤسسات، وتحتويها الاستراتيجيات، وتضمها المبادرات، بما يعنيه ذلك من المراجعات المستمرة للاستراتيجيات الوطنية للابتكار ، والنزول بها على أرض الواقع، والبدء بالمبادرات القطاعية الايسر والأسهل، وتحويل الفكرة المطروحة إلى واقع عمل ملموس، ونماذج عمل حية، وتطبيقات أداء مجربة، فإن نقل الابتكار من كونه لغة فوقية تتجه إلى الصفوة من البشر، أو يقع ضمن نطاق مؤسسة واحدة بات بحاجة إلى استشعار مجتمعي يضع في الابتكار طموحه ، ذلك أن الابتكار تصنعه التجارب، وتبنيه النماذج الحية، والتفاعلات الحاصلة في منظومات الحياة، وما تفصح عنه التحديات والمشكلات الحاصلة في الاقتصاد والإدارة وعبر توحيد الجهود وتأطيرها ورفع سقف التوقعات الوطنية من الابتكار وتعميق مسارات البحث العلمي والاختراع والريادة كمنطلق لنمو ثقافة الابتكار في المجتمع، ومعنى ذلك أن مجمعات الابتكار أو مؤسساته لا يمكن أن تحقق هدف الابتكار دون حضور مؤسسات التعليم من مدارس وجامعات، ومراكز البحوث العلمية التخصصية المنتشرة في المؤسسات التعليمة العامة والخاصة، أو كذلك دون أن تمد جسور التواصل مع المجتمع والأسر، والشباب وأصحاب المواهب والاستعدادات الفطرية وكذلك المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ورواد الاعمال، وأن تكون أساليب الدعم المقدمة للمبتكرين والمخترعين، وأصحاب المبادرات الابتكارية والاختراعية قادرة على انتاج القوة في طبيعة العمل المبتكر، وما تتطلبه من تعزيز جوانب المتابعة والمساندة الفنية والادارية عبر التشريعات الداعمة لابتكار مستدام.
وعليه فإن من شأن الواقعية التي تتجه إليها استراتيجيات الابتكار، بما تحمله من طموحات، وتحققه من فرص، وتتيحه من بدائل، وتصنعه من خيارات، ومستوى الدعم والحافز الذي تقدمه للشباب المبتكر، سوف يكون له أثره الإيجابي في ترسيخ الابتكار المنتج ، وتعزيز هويته في البيئة الاجتماعية العمانية، بما ينعكس على نوعية الابتكارات التي يقدمها أبناء الوطن في مختلف المجالات، وتوظيف الفرص والحوافز التي تقدمها الشركات والقطاع الخاص والمؤسسات الأخرى في الدفع بالابتكار إلى التطبيق ، إذ من شأن ذلك أن يعزز مستوى الثقة لدى الشباب العماني بأن ابتكاراته تحظى بالاهتمام والدعم والمساندة، وأن الفكر الاستراتيجي المبتكر أصبح اليوم يشهد رواجا في منظومة الأداء الوطني والقطاعات الاقتصادية والاستثمارية، وأن الخبرة الوطنية المبتكرة تحظى بالمزيد من المراجعة والنمو، والاهتمام وحضورها في مسيرة التنويع الاقتصادي والاستدامة المالية.
ومع التقدير للجهود التي قدمها مجلس البحث العلمي سابقا، وخرجت بالعديد من الممكنات الإيجابية التي تعزز جسور الابتكار ، والتي تأتي من بينها الاستراتيجية الوطنية للابتكار، والدور المعقود في ظل إعادة الهيكلة الجديدة على وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار في إعادة هيكلة استراتيجية العمل الابتكاري بما يتناسب مع الأولويات الوطنية ويتكيف مع الفرص المتاحة، ويعمل على الاسراع في إيجاد معالجات للتحديات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن جائحة كورونا ( كوفيد19) والتي نعتقد بأن استراتيجية الابتكار كانت غائبة إلى حد ما عن المشهد الوطني في مواجهة متطلبات الجائحة ، لتقدم لنا مؤشرا بأن الابتكار ما زال في خطواته الأولى، فمع كل المبتكرين الذين أظهرتهم الساحة العمانية وسلطت الضوء على بعض ابتكاراتهم واختراعاتهم منصات التواصل أو الاعلام المحلي، إلا أن المصير المجهول لإنتاجهم واستمراريته مرهون بما تحمله الاجابة عن السؤال ماذا بعد؟
وعليه وحتى لا نرجع إلى نقطة الصفر التي بدأنا منها ونرجع بهذه الجهود إلى الوراء، نحتاج إلى بادرة تفاؤل لتخصيص وتوفير بيئة متكاملة تعنى باحتواء الباحثين والأكاديميين والمبتكرين في مختلف مؤسسات الجهاز الإداري للدولة، وتوفير قاعدة بيانات وطنية متكاملة بأصحاب المواهب وبراءات الاختراع والمبتكرين، سواء من التعليم أو المؤسسات العامة بالدولة أو الأكاديميين أو القطاع الخاص والشركات، هذا الأمر بحاجة إلى أن يعمل مجمع الابتكار مسقط مع غيره من مراكز الابتكار المنتشرة بجامعة السلطان قابوس والجامعات الخاصة ومركز الابتكار الصناعي في خلق بيئة وطنية جاذبة للابتكار، تستقطب الكفاءات وتستوعب الخبرات وأصحاب المواهب بحيث تضع ابتكاراتهم أمام تقييم ومراجعة وتصحيح وتقييم ومحاكاة مع تجارب الآخرين، وتوأمة مع المختبرات الابتكارية العالمية لتصنع من أبناءنا نماذج عمل واقعية، وهو أمر يتطلب قرارات جريئة تنقل المسألة الابتكارية من التنظير إلى التطبيق ومن الترويج للمفاهيم والنظريات إلى تقييم الممارسة الحالية ومقارنتها بالسقف الوطني للابتكار ويضبط موقع الشركات ومؤسسات القطاع الخاص والقطاعات المعنية بالابتكار عبر إسهامها الفاعل في تقييم المنجز الابتكاري الوطني وتوظيفها له وتفاعلها مع معايير عمله، وعبر تقييم الممارسة الابتكارية ويقيمها ليس في النظريات وسرد المؤشرات العالمية العامة، بل بقياسها للتجارب الابتكارية الناشئة في الميدان، ومتابعة مشروعات الابتكار والمختبرات العلمية وحاضنات الابتكار باعتبارها منطلق لتقييم التجربة.