مسقط-أثير
إعداد: محمد بن علي الوهيبي – كاتب عماني
ظل طريق وادي السمير يعنٌّ على البال كثيرًا، وفي صباح يوم الاثنين الأول من نوفمبر2021 ومع بدايات الشعور بأول نسمات الشتاء، حسمتُ الأمر وانطلقتُ من دوار وادي عدي مرورًا بالعامرات ثم العتكية والحاجر وتونس وفؤاد، بعدها تركت الطريق المؤدي إلى ولاية قريات لأتجه يمينًا وأدخل طريق جحلوت ثم أتجاوزها وأمر بكبكب وبعي والشكيلي ومنعطف وادي السرين ثم صياء، وقبل أن أصل عرقي كان لابد أن أسلك يمين الطريق ميممًا شطر السمير لتصدمني لافتة الطريق التي كتب عليها سمير بدون حرفي الألف واللام الشمسية، وكما نعرف أن اسم المنطقة دائمًا ما يكون من دلالات وإشارات المكان، حيث سيلاحظ عابر هذا الوادي كثرة أشجار السمر صغيرة الحجم، وربما جاءت تسمية الوادي بوادي السمير من هذا المصدر، وبعد أن قطعت مسافة 74 كيلو متر تقريبًا من وادي عدي وصولًا إلى هنا، وعلى يمين الطريق حيث تزهر الأرض بروائح برم السمر، وعلى هذه الجبال المهيبة التي تصدح العزلة بنغم غربتها رأيت بيوتا منحوتة في الصخر بشكل لافت للنظر تستدعي الوقوف والتأمل، ربما لأنه مكان عسير المنال غافلته الطرق والمارة زمنا طويلا!! ولعله سيكتسب مفهومًا آخر حينما تتعرف على تفاصيله ربما ليس كل الحكاية ولكن جانبا منها بما يكفي لتراه وتدركه فتستعيد ذاكرة المكان بكل حمولاته.

تتكون هذه البيوت من غرف منفصلة وبعضها متصل بممرات محفورة ببراعةٍ منقطعة النظير بين متاهات الأودية والطرق الجبلية، وفي المنحدرات الصخرية لتقي قاطنيه في غابر الأيام من المجهول ومن تقلبات الطبيعة وأخطار الضواري والزواحف.
بقيت هذه البيوت شاهدة على أحلام من سكنوها وهواجسهم وأوجاعهم التي تركوها معلقة على سقوفها الحجرية، ولتكون دليلا ملموسًا على تفاصيل وثقافة أناس استوطنوا هنا ثم ارتحلوا في أرجاء الأرض، بحثا عن حياة في مكان آخر.

ليت المختصين بالجيولوجيا والمهتمين بالتراث والثقافة الإنسانية أن يمروا من هنا ليخبرونا بما لم تخبرنا به مشاهداتنا البصرية.

كما يمكن لزائري الوادي التخييم في أماكنه الجميلة خاصة في المنطقة التي يطلق عليها مسمى “بلل” والتي تزدان بالأشجار المعمرة مثل: السمر والسدر والغاف، وتبدو هذه المنطقة وكأنها حديقة طبيعية تريح العين وتسعد النفس، ويوجد بها آثار قديمة لسواقي الماء وكأنها مزارع قديمة.
وليس بعيدا عن هذا المكان تذكرت أن الكاتب والباحث صالح الفارسي في أحد إصداراته المتفردة عن ولاية قريات أشار إلى وجود صخرة في وادي طابة أو وادي طابا – ربما من طاب المكان وحسُنَ- ألمح الفارسي إلى وجود نقوش قديمة على هذه الصخرة وقف عليها بنفسه.

فقررتُ العودة إلى عرقي والتوجه منها إلى الوادي حيث تلك الصخرة. وجدت الطريق وعرةً ملأى بالصخور الكبيرة، كما لم أجد هناك من يدلني على تلك الصخرة، وقررت العودة وترك أمر الصخرة لوقت آخر.

وفي طريق العودة خطر على بالي أن أهاتف صالح الفارسي لعل وقته يسمح بزيارة صخرة وادي طابا فوجدته متحمسا وشغوفًا للقيام برحلة إلى تلك الصخرة، وكان موعدنا في العامرات لأعود مرة أخرى في اليوم نفسه بمعيته للوصول إلى تلك الصخرة، حيث كان لابد من الوصول إلى نقطة معينة بسيارة الدفع الرباعي لا يمكن تجاوزها إلا بالسير على الأقدام بين الصخور الحادة، وقطع مسافة لا تقل عن ثلاثة كيلومترات تقريبًا، وفي حقيقة الأمر أن هذه الصخرة مختلفة تمامًا عن صخور الوادي وكأنها جلبت من مكان آخر، حيث إنها تتميز بحجمها الكبير وتبدو من بعيد كأنها رأس إنسان، كما تتفرد بألوانها المختلفة ونعومة الملمس، ويوجد في وسطها شق كبير يبدو كأنه كهف يردد الأصوات لتسمعها وكأنها عزف بآلات موسيقية متنوعة! وأكثر ما يميز هذه الصخرة العجيبة النقوش والرسوم الحجرية التي تخبرنا عن تخيلات الإنسان القديم، والتي تشير إلى حياة ذلك الإنسان وحياة كائنات المكان وصراعاته معها ومع مكونات الطبيعة.
تظهر لنا الصخرة صورة “وعل” محفورة بحرفية وبراعة عالية، وفي أعلى المشهد تبدو صورة لإنسان يحاول أن يصطاد الوعل بسلاح بدائي، وفي صفحة أخرى من هذه الصخرة ثمة رسمة لمجموعة من الأشخاص شاهرين أسلحتهم البدائية وكأنهم في معركة، وفي مكان آخر رسمة أخرى لكائن لا تتضح معالمه ربما تعود لحيوان مفترس، كما توجد رسومات مختلفة تحتاج لدراسة مستفيضة.


وهنا لا يفوتني إلى الإشارة أن صالح الفارسي في كتابه “قريات عراقة التاريخ وروعة الطبيعة” في طبعته الثالثة أورد حكاية شفهية متناقلة عن تلك الصخرة، حيث تقول الرواية: إن امرأة جلست مع طفلتها لتستظل بها، ولشدة إعجاب المرأة وانبهارها بألوان الصخرة تحركت مشاعر الأمومة لديها، وتمنت أن ترزق بثياب لابنتها تكون مشابهة لألوان الصخرة، ومن نظرة الإعجاب والفرح كما تقول الأسطورة خرج من عيني المرأة شرر يشبه أشعة الليزر أدى إلى فلق الصخرة إلى نصفين.


وتشير المعلومات المتوافرة إلى أن الكتابة عن طريق الصور والنقوش أو بالرموز ربما ظهرت في الفترة من عام 7000 إلى 9000 قبل الميلاد، وهذا يدل على أن من يقرأ هذه النقوش يستطيع الاستدلال على من استوطنوا هذا المكان في تلك الحقب الزمنية السحيقة، وأن بهذه البلاد تاريخا يستحق أن يُروى ويستحق الاهتمام.

وفي هذا الوادي وحده يوجد الكثير من الصخور التي ترك الإنسان القديم رسائله فيها ورسم الكثير من مفردات حياته عليها، ومن يبحث سيجد الكثير من الإشارات والدلالات على ذلك في أودية وجبال بلادنا، وقطعًا ستؤدي هذه الاكتشافات إلى معرفة الجانب المخفي والمعتم من تاريخ هذه البلاد وحضارتها ، وعند استنطاق روح الرسوم والنقوش القديمة إضافة إلى ثراء هذه البلاد بإنسانها وبموقعها الجغرافي وتنوع مناخها وتضاريسها حتمًا سيكشف عن بلاد لابد أن توضع على سلم أولويات السياحة العالمية وستكون رافدا مهما للإنسان العماني.