أثير – ناصر الحارثي
مع بداية كل عام جديد، يمارس الناس طقوسًا وعادات تهدف في معظمها إلى بداية صفحة جديدة، ولكن الحقيقة التي نحاول الهروب منها هو أن الصفحة الجديدة ناصعة البياض لا تتحقق إلا في قلب صفحة الدفتر أو بضغطة مزدوجة “ctrl + N”، أما في واقع حياتنا فإن الشخص الذي ينام مع نهاية السنة هو ذاته الذي يولد في اليوم الآتي جسدا وروحا وعقلا ومحيطا، نعم يمكننا التخفف من قائمة الأشخاص ونطلب السماح والغفران إلا أن أسباب الخلاف باقية وتحتاج إلى حل، نعم يمكن أن نصنع أهدافًا جديدة ولكن الكثير من أهداف السنوات الماضية ستبقى في القائمة، بل يصعب إضافة هدف جديد في قائمة ممتلئة بالأهداف غير المحققة، أنا لا أدعو إلى إلغاء هذه العادات المحمودة في غاياتها ولكن أحاول فتح زاوية جديدة للنظر في الكثير من سلوكياتنا.
لا يمكن تحقيق الأهداف بطبيعة الحال عبر كتابتها على أوراق أو تدوينها في قائمة “To DO list”، لأن موانع تحقيق الأهداف متنوعة، فقد يكون السبب عدم وجود وقت أو معرفة كافيين لطرق تحقيقها أو الظروف المحيطة غير مواتية، أو حتى عدم وجود العزيمة الكافية، ولا يمكن إلغاء هذه الظروف فجأة فعملية الإحلال من أجل تحقيق أهداف جديدة تتطلب توفر عددًا من العوامل وزوال عوامل أخرى، فمثلا عندما تقرر الاعتماد على نظام غذائي صحي وتدرس الظروف التي حولك تكتشف أن الشوكلاتة أقرب لغرفة الجلوس من الخضار كالخيار والجزر لوجودهما في ثلاجة المطبخ، فتقرر وضع الخيار والجزر على طاولة الجلوس، ولكن تكتشف مع مرور الأيام أنك تذهب لتناول الشوكلاتة البعيدة، وذلك لأنك هيأت الظروف المحيطة وتجاهلت أمرًا مهمًا وهو أن دماغك يستلذ الحلويات أكثر من الخضروات.
لذلك نجد فترة الامتحانات المدرسية أو الجامعية هي فترة صراع بين الرغبات والالتزامات، ويكسب الطلاب درجات إلى حد ما بقدر تمكنهم على تغليب الالتزامات الأساسية على الرغبات الشخصية، وهذه المعادلة غير قابلة للتطبيق في كل شؤون الحياة، بل في أحايين كثيرة تكون الأهداف على شكل رغبات، وهنا تتحقق عند الأفراد الكثير من الأهداف غير المدروسة وغير المكتوبة عند بداية كل عام، فقد تشتعل عند أحدهم فكرة تأليف كتاب في التحليل النفسي أثناء دراسة تخصص تقنية المعلومات، وهذا ما يسمى ما لم يكن في الحسبان، وفي هذا الجانب بحر من القصص التي لا تنتهي، في الآن ذاته قد يكون السعي باتجاه الرغبات إشكال بقدر ما هو حل، لأن بعض الالتزمات الأساسية هي ضرورية غير قابلة للتأجيل، وقد تكون تلك الرغبة مؤقتة كالابتكارات والتفنن في الطبخ وقت الاختبارات وهي موهبة قد تكون سريعة الانتهاء تنتهي مع ليلة الاختبار الأخير.
كيف يفكر الإنسان وماذا يريد؟ سؤال اشتغل به في الأزمنة الغابرة مجموعة محدودة من البشر وعادة هم رجال الدين وأهل الفلسفة والسياسة، حتى جاء علم الاجتماع ليطرح أسئلة أكثر، وأصبح السؤال أكثر أهمية في علم الأنثروبوليجا الذي ظهر في القرن الثامن عشر لدراسة الإنسان وسلوكياته ورغباته، ولكننا في هذا العصر أصبح جواب هذا السؤال أكثر إلحاحا ليس فقط على مستوى الأفراد والمجتمعات، بل على مستوى السوق، حيث تسعى الشركات إلى بيع منتجاتها الدعائية رقميا عن طريق الوصول المباشر إلى هواتف المستهلكين، تستطيع الشركات معرفة رغباتنا إلى حد ما ولكنها لا تستطيع أن تحقق ما نرغب في تحقيقه، لذلك تكثف إعلاناتها عن الحمية الغذائية أو الدخول في برنامج تدريبي عند بداية كل عام لأنها تعرف بأنها أحد أهدافنا الرئيسية عند بداية كل عام، ولكنها عادة لا تستطيع تحقيق هذه الأهداف للبشر، فخلال السنوات الماضية تضاعفت التطبيقات الهاتفية للياقة البدنية، ولكن في المقابل زادت حالات الإصابة بالسمنة.
إذن، نجد بأن السؤال الحقيقي هو ليس ما نريد بل كيف نحقق ما نريد وكيف نتجاوز كل التحديات والظروف التي تمنع تحقيق الأهداف والتي قد يكون منها أنك تكتشف في منتصف الطريق بأنك ما عدت ترغب في تحقيق هدف ما، وهذا ما يحدث لدى الكثيرين، لذلك تشهد البرامج التي يتزاحم الناس من أجل الاشتراك فيها مع بداية العام انسحابا جماعيا بعد شهر إلى ثلاثة أشهر.