مسقط-أثير
إعداد: د. راشد بن حمود بن أحمد النظيري، كلية الحقوق، جامعة السلطان قابوس
لا تتصور استحالة تنفيذ العقد إلا إذا نشأ العقد صحيحا بأركانه وشروطه كافة، وكان تنفيذه ممكنا، وإذا كان العقد ينقسم من حيث الالتزامات التي ينشئها إلى قسمين، وهما: العقود الملزمة للعاقدين، والعقود الملزمة لعاقد واحد، فسوف أبين في هذا المقال – بإيجاز- استحالة التنفيذ وآثارها في كلا العقدين.
أولا: استحالة تنفيذ العقد الملزم للعاقدين.
إذا استحال على المدين تنفيذ التزامه(تحقيق نتيجة أو بذل عناية) استحالة مطلقة، فعلية (مادية) كانت الاستحالة أو قانونية؛ وذلك بسبب أجنبي (قوة قاهرة أو حادث فجائي بسبب آفة سماوية كالزلازل والبراكين، والصواعق والجفاف أو بسبب فعل الغير كالحروب والإضراب والقوانين)لا يد له فيه(بدون فعل أو خطأ من المدين)، ولا يستطيع توقعه أو الاحتراز منه أو دفعه، فإنَّ العقد ينفسخ تلقائيا بقوة القانون- أي دون الحاجة إلى اللجوء للقضاء أو الإعذار أو رضا الدائن- فينقضي الالتزام، وما صحبه من تأمينات عينية أو شخصية، وتبرأ ذمة المدين، ويسقط الالتزام المقابل الثابت على الدائن، ويعود المتعاقدان إلى ما كانا عليه قبل نشوء الالتزام، فيرد كل واحد منهما للآخر ما تسلمه منه، ورد في المادة 339 من قانون المعاملات المدنية العماني: ((ينقضي الالتزام إذا أثبت المدين أنَّ الوفاء به أصبح مستحيلا عليه لسبب أجنبي لا يد له فيه))؛ لأنَّه لا تكليف بمستحيل، وفي التنزيل الحكيم: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} البقرة: ٢٨٦، وورد في المادة 172/1: ((في العقود الملزمة للجانبين إذا طرأت قوة قاهرة تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا انقضى معه الالتزام المقابل له، وانفسخ العقد من تلقاء نفسه))، ونصَّت المادة 173: ((إذا فسخ العقد أو انفسخ أعيد المتعاقدان إلى الحال التي كانا عليه قبل العقد مع أداء الحقوق المترتبة على ذلك فإذا استحال ذلك يحكم بالتعويض)).
ولا محل لمطالبة الدائن بالتعويض عن الأضرار هنا؛ لعدم حصول الخطأ من المدين، وقد نطقت بذلك المادة 177 من قانون المعاملات المدنية العماني: ((إذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي لا يد له فيه كآفة سماوية أو حادث فجائي أو قوة قاهرة أو فعل الغير أو فعل المضرور كان غير ملزم بالتعويض ما لم يقض القانون أو الاتفاق بغير ذلك)).
ويقع عبء إثبات أن استحالة التنفيذ كانت بسبب أجنبي على عاتق مدعيه، وهو المدين؛ لأن الأصل تنفيذ الالتزام بعد أن قام العقد صحيحا بأركانه وشروطه.
مثاله:
لو تلف المبيع(محل العقد) قبل التسليم بسبب لا يد للبائع فيه فإنَّ البيع ينفسخ، ويكون كأن لم يكن، وتنقضي التزامات الطرفين، وإذا سلم المشتري الثمن للبائع لزمه رده، جاء في المادة 389 من قانون المعاملات المدنية العماني: ((إذا هلك المبيع قبل التسليم بسبب لا يد لأحد المتعاقدين فيه انفسخ البيع واسترد المشتري ما أداه من الثمن…)) وينبغي ملاحظة أنَّ البائع لو أعذر المشتري إعذارا صحيحا لتسلم المبيع ثم هلك المبيع لسبب أجنبي فإنه يهلك على حساب المشتري(الدائن)، وليس على حساب البائع(المدين)، ورد في المادة 227 من قانون المعاملات المدنية العماني: ((إذا تمَّ إعذار الدائن تحمل تبعة هلاك الشيء محل الالتزام…))، وفي المادة 385: ((يكون التسليم بوضع المبيع تحت تصرف المشتري بحيث يتمكن من حيازته والانتفاع به دون حائل ولو لم يستول عليه استيلاء ماديا ما دام البائع قد أعلمه بذلك…)).
وفي هذا الشأن يقول الإمام السالمي -رحمه الله:
…………………………….. والشاري قبل القبض لم يُضّمَّنِ
وإنما يَضْمنُهُ مَـــنْ باعا ………. إن أبدا مـن تسليمــه امِتناعا
وإن يكن ما بينه والمشترى ……… خَلّـَى فلا يضْمَنْهُ فلتَنْظُـــرِ
لأن ذاك المشتـري أضاعه …….. حين أبى أن يقبـضَ البضاعة
وإذا تهدمت العين المؤجرة (محل العقد)، وكانت معيَّنة بسبب لا يعود للمؤجر فإنَّ عقد الإيجار ينفسخ من تلقاء نفسه، وإن كان الهلاك بعد مدة من العقد استحق المؤجر أجرته عن تلك المدة فقط؛ لاستحالة العودة فيها؛ إذ عقد الإيجار من العقود الزمنية المستمرة، ومن هذا الباب ما ذكره الفقهاء السابقون أن من اكترى دابة معينة لتنقله من بلد إلى بلد آخر، فماتت كان على المكتري كراء المثل إلى حيث وصلت، وقيل: الأجرة بقدر المسافة المقطوعة، ومن استأجر أرضا ليزرعها فزرعها فعليه الأجرة، وإن حال بينه وزراعتها آفة فلا شيء عليه.
وإذا كان التزام المدين توريد بضائع معينة من دولة مسماة إلى المحل خلال مدة معينة ثم صدر قانون بمنع الاستيراد من تلك الدولة، وشمل المنع المدة المتفق عليها، ولا يعلم وقت انتهائه، فإن الالتزام والالتزامات المقابلة تنقضي، وإذا كان الالتزام هو إلقاء دورات تعليمية في موسم معين فمات المدين الملتزم قبل الشروع في التنفيذ فإن الالتزام ينقضي.
وأما إن كانت الاستحالة مؤقتة بسبب مطر أو حريق أو انتشار عاهة لم ينقض الالتزام، ويوقف تنفيذه إلى أن يتم زوال المانع، فإن ارتفع قبل أن يكون التنفيذ غير مجد أو مفيد نفذ الالتزام، أي يشرط أن لا تكون مدة التنفيذ عنصرا جوهريا في الالتزام، وإلا انفسخ العقد بقوة القانون، وإذا كان العقد عقد زمنيا مستمرا كعقد الإجارة فإن الأجرة تسقط عن المستأجر خلال مدة وقف التنفيذ، ويثبت للدائن حق فسخ العقد بشرط إعذار المدين.
وإن كانت الاستحالة جزئية (في بعض الالتزام) فإنَّه لا يترك كله؛ إذ ما لا يدرك كله لا يترك كله، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}التغابن:16، وفي الحديث الشريف قال عليه الصلاة والسلام: “إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم”، ولذلك ينفذ الالتزام في الباقي مع تخفيض التزامات العاقد الآخر، بشرط أن يكون الالتزام قابلا للتبعيض والتجزئة -إما لطبيعته أو تبين أن الغرض الذي قصده المتعاقدان جعل الالتزام لا يجوز تنفيذه مجزأ(المادة:332)- ولم يكن الذي هلك هو الجزء الرئيس والجوهري في الالتزام، مع ثبوت حق خيار الفسخ للدائن بشرط إعذار المدين، فلو انهدم بعض البيت المؤجر كان للمستأجر الخيار في استمرار العقد في الجزء المتبقي مع سقوط الأجرة عن الجزء المنهدم أو فسخه مع إعذار المؤجر بذلك، ورد في الفقرة الثانية من المادة 172: ((إذا كانت الاستحالة جزئية انقضى ما يقابل الجزء الذي استحال تنفيذه وينطبق هذا الحكم على الاستحالة الوقتية في العقود المستمرة، وفي هاتين الحالتين يجوز للدائن فسخ العقد بشرط إعذار المدين)).
هذا، وقد نصَّ القانون في عقد البيع أن الاستحالة إن كانت عائدة إلى فعل الغير فإنَّ الالتزام لا ينقضي من تلقاء نفسه، ويثبت خيار الفسخ للمشتري، فإن اختار الفسخ فسخ العقد، وإن لم يختر الفسخ بقي العقد، واستحق الضمان من الغير، نصت على ذلك المادة 391 من قانون المعاملات المدنية العماني: ((1.إذا هلك المبيع قبل التسليم بفعل شخص آخر كان للمشتري الخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أجازه، وله حق الرجوع على المتلف بضمان مثل المبيع أو قيمته.
2. إذا تلف بعض المبيع قبل التسليم بفعل شخص آخر كان للمشتري الخيار بين فسخ البيع أو أخذ الباقي بحصته من الثمن))، وكذا الشأن يثبت الخيار للمشتري فيما لو كان الغير هو الدولة، فتحملت الضمان بسبب تملك المعقود عليه للمصلحة العامة، أو كان المعقود عليه مؤمنا، فتكلفت شركة التأمين بالضمان.
وأما إن كانت الاستحالة في العقد عائدة إلى فعل الدائن وخطئه فإنَّ الالتزام لا ينقضي، إذ لا يصح أن يستفيد المرء من خطئه، ولذلك تكون الخسارة عليه، ويؤمر بتنفيذ التزاماته، نصت المادة 390 في فقرتها الأولى: ((إذا هلك المبيع قبل التسليم أو تلف بعضه بفعل المشتري اعتبر قابضا للمبيع ولزمه أداء الثمن))، وجاء في المعيار الشرعي رقم(9) المتعلق بالإجارة والإجارة المنتهية بالتمليك الصادر عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية بند(5/1/6): ((إذا فاتت المنفعة كليا أو جزئيا بتعدي المستأجر مع بقاء العين فإنه يضمن إعادة المنفعة أو إصلاحها ولا تسقط الأجرة عن مدة فوات المنفعة))، ولو كانت الاستحالة بفعل المدين نفسه أو تقصيره لم ينقض الالتزام، وكان للعاقد الآخر التعويض، ورد في المادة 264 من قانون المعاملات المدنية العُماني: ((إذا استحال على المدين تنفيذ الالتزام عينا حكم عليه بالتعويض لعدم الوفاء بالتزامه ما لم يثبت أن استحالة التنفيذ قد نشأت عن سبب أجنبي لا يد له فيه…وتقدِّر المحكمة التعويض بما يساوي الضرر الذي أصاب الدائن فعلا حين وقوعه))، وفي المادة181: ((يقدر التعويض في جميع الأحوال بقدر ما لحق المضرور من ضرر وما فاته من كسب بشرط أن يكون ذلك نتيجة طبيعية للفعل الضار)).
ثانيا: استحالة تنفيذ العقد الملزم لأحد العاقدين.
إذا استحال التنفيذ في العقود الملزمة لأحد المتعاقدين بسبب أجنبي لا يد للمدين فيه فإنَّ العقد ينفسخ تلقائيا، وليس هناك التزامات مقابلة لتنقضي، ويتحمل الدائن الخسارة وحده، فلو أودع زيد لدى عمرو مالا بدون أجرة أو أعاره كتابا فتلف المال بسبب أجنبي، لا دخل لعمرو فيه، فإنَّ الوديعة أو العارية تنقضي، ولا يلزم عمرو بالتعويض؛ إذ الخسارة على صاحب الوديعة، وأما إن كان التلف بسبب تعدي عمرو أو تقصيره أو كان التلف بعد إعذار زيد له بوجوب رد الوديعة أو العارية لزمه الضمان؛ لتحول يده من يد أمان إلى يد ضمان، وهكذا كل يد ضمان يلزمها التعويض وإن كانت الاستحالة بسبب أجنبي، فمن وجد لقطة فأخذها بنية التملك لزمه الضمان، وإن تلفت بسبب أجنبي لا يد له فيه؛ لأنَّ يده يد ضمان، وأمَّا إن أخذها بنية الحفظ والرد إلى صاحبها فلا يضمن وإن هلكت بسبب أجنبي أي بدون تعد أو تقصير منه؛ لأنَّ يده يد أمان، ومن سرق مال غيره أو غصبه لزمه الضمان وإن تلف المسروق بسبب أجنبي؛ لأنَّ يده يد ضمان، وليست يد أمان، وقد ذكر فقهاؤنا كثيرا من التفريعات على هذا، تنظر في مظانها.
المراجع:
1. انقضاء الالتزام دون الوفاء به في القانون الوضعي والفقه الإسلامي(دراسة مقارنة)، رسالة ماجستير، بن ددوش نضرة، جامعة وهران، كلية الحقوق والعلوم السياسية.
2. جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام، عبد الله بن حميد السالمي.
3. المختصر في شرح القانون المدني الأردني، آثار الحق الشخصي، أحكام الالتزام، عبد الرحمن أحمد الحلالشة.
4. المذكرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني.
5. المعايير الشرعية، هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية.
6. منهج الطالبين وبلاغ الراغبين، خميس بن سعيد الشقصي.
7. الوجيز في مصادر الالتزام في قانون المعاملات المدنية العماني، محمد إبراهيم بندري.