زاوية تربوية

كيف يرفع التعليم العالي من سقف المهارات الناعمة في مخرجاته؟

كيف يرفع التعليم العالي من سقف المهارات الناعمة في مخرجاته؟
كيف يرفع التعليم العالي من سقف المهارات الناعمة في مخرجاته؟ كيف يرفع التعليم العالي من سقف المهارات الناعمة في مخرجاته؟

د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة

يَفترض التحدي الذي تواجهه مؤسسات التعليم العالي والجامعات اليوم في ظل نظريات اقتصاد المعرفة، كيف يمكن اللحاق بالركب العالمي المتجه إلى تعظيم اقتصاد المعرفة من خلال بناء المهارة الناعمة وترقيتها في سلوك المخرجات؟، إذ كثيرا ما يعتب رجال الاعمال وأصحاب الشركات العابرة للقارات على التعليم العالي تدني قدرة مخرجاته على تحقيق توقعات القطاع الخاص والشركات والتكيف مع نظم ومتطلبات عملها المتغيرة، وانتقالها من الطرق التقليدية إلى استخدم التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي والاستشعار عن بعد، وأن اختزال المهارة من المحتوى التعليمي، أفقد التعليم واقعيته واصالته واتجه به إلى الشكليات، وما نتج عنها من اتساع الممارسات الاستهلاكية وفائض العمليات المتكررة، وأدى إلى ارتفاع مستوى الفاقد التعليمي والهدر في الكفاءات.
وبالتالي ما يطرحه تساؤلنا من أولويات إعادة هيكلة التعليم وهندسة برامجه المتجهة نحو المهارة ، بحيث تتبنى سياسات التعليم العالي وخططه وبرامجه موجهات عملية أكثر نضجا في إدارة المهارة وتأصيلها وتنميتها وترقيتها وبنائها وتعميق حضورها في فقه المخرجات وتمكينها من نقل الخريج من حالة الاستهلاكية والسلبية وندب الحظ والاعتماد على الغير وانتظار الوظيفة الحكومية، إلى إيجاد روح التغيير في ذاته وإعادة التثمير في مهاراته والتسويق لقدراته وصناعة الإنتاجية في ممارساته والاعتماد على النفس والتسويق لذاته في الداخل والخارج، كما أن قدرة التعليم العالي على الوفاء بالتزاماته المجتمعية في ظل وظائفه الثلاث ( التدريس، والبحث العلمي، والمجتمع، يضاف إليها الابتكار والريادة والإدارة الاحترافية للمشاريع المشاريع) خاصة ما يرتبط منها باقتصاد المعرفة وتنشيط حركة المجتمع الاقتصادية، مرهون بحجم ما يوليه للمهارات الناعمة من حضور في مساراته، وأجندته وعناصره، كونها طريق القوة الذي يضمن قدرته على تحقيق تعلم نشط يتناغم مع أبجديات الحياة المهنية للخريج، ويتفاعل مع الأولويات الوطنية في إسهام الجامعات في التنمية الوطنية المستدامة، لذلك كان استيعاب التعليم لمهارات القرن الحادي والعشرين وإعادة هيكلة مهارات مدخلاته من الدبلوم العام لتتناغم مع حجم المرحلة وطبية التحول فيها، مؤشر لجودته وقدرته على المنافسة، وخروجه من عنق الزجاجة، ليفتح الآفاق الواسعة للمخرجات في الاسهام الفاعل في إدارة مشروع المستقبل.
إن المهارات الناعمة بما تمثله من جملة الممكنات والقدرات والاستعدادات التي تتجه إلى تطوير العمل والتثمير في الفرص التي تمتلكها المؤسسة، وإعادة إنتاجها بما يحقق لها المزيد من النجاح والمنافسة مثل، مهارات الاتصال التواصل، والتخطيط والتنظيم، والتسويق والسمعة، والشراكة والإنتاجية، والالهام والتفكير الناقد، وإدارة الأزمات والتعامل مع الحشود والضغوطات، والاحترافية في إدارة المشاريع، والتمكين والحوافز والصلاحيات، والتقنيات الحديثة وإدارة المنصات الاجتماعية، ومهارات حل المشكلات والقدرة على القيادة وصناعة الانموذج وغيرها من المهارات ذات القيمة المضافة، وتشكله من نسبة حضور عالية في متطلبات الاحتياج في سوق العمل، تجسيد عملي لمتطلبات الثورة الصناعية الرابعة، ومعطيات التحول في السلوك الاجتماعي والرقمي، بما يتناسب مع بيئة الأعمال، وظروف واحتياجات العاملين بالمؤسسات، لتتجه إلى صناعة الحافز وترقية الدوافع، وإدارة المشاعر، وتعميق قيم الولاء والانتماء وترقية هوية المؤسسة.
من هنا لم تعد المهارات الناعمة في عالم الاقتصاد ترفا فكريا أو حالة استثنائية، بقدر ما هي استحقاق أصيل يجب أن تعمل مؤسسات التعليم العالي على تثبيت قواعده وتأطير مرتكزاته وإيجاد التشريعات والضوابط التي تحافظ على ضرورتها في فقه الخريج وسلوكه القادم كشرط لتخرجه، وهي تشكل مع المهارات الصلبة ثنائيا مهنيا في بناء قدرات الإنتاجية لدى المخرجات، وإن كان تأثير المهارات الناعمة اليوم أكثر وأدق وأوسع في رسم هوية الإنجاز وملامح الإنتاجية، وباتت حاجة سوق العمل إلى المهارات الناعمة أكبر من حاجته إلى المهارات الصلبة المتمثلة في المؤهل الدراسي والخبرة وإن كان للأخيرة حضورها في معايير القبول والاختيار، إذا ما علمنا أن احتياج سوق العمل والقطاع الخاص لمؤهلات الدبلوم المتوسط في المؤسسات الإنتاجية ومؤسسات القطاع الخاص أكبر من حاجته إلى المؤهلات الجامعية العليا، إذ تشكل المهارة أساس الاختيار فيه، ومؤشر القوة الذي يضع المؤسسة في المقدمة،
وعود على بدء يبدو أن الجهود السابقة التي انتهجتها الحكومة في زيادة استيعاب مؤسسات التعليم العالي والجامعات والبعثات الخارجية لمخرجات الدبلوم العام بالرغم من نتائجها الايجابية إلا انها لم تقدم خطوة حاسمة لمواجهة التحدي الاكبر الممثل في موقع المهارات الناعمة في سقف القبول أو التخرج ، وضمان مواكبة برامج وخطط مؤسسات التعليم العالي لاحتياجات التنمية الاقتصادية الوطنية من خلال تركيزها على المهارات وجودة البرامج ونوعيتها ومرونتها وانفتاحها واتساعها وتحقيقها لغايات التنمية، الأمر الذي يمكن اسقاطه على زيادة أعداد الباحثين عن عمل بالسلطنة من مخرجات الجامعات، بسبب ما يشير إليه أصحاب المؤسسات الخاصة من تدني استيعاب الخريجين لما يعرف بمهارات القرن الواحد والعشرين مما صعّب دمجهم في سوق العمل والذي أوجد صعوبة في حصولهم على فرص عمل أو المنافسة فيها، وأن الزيادة على الطلب في سوق العمل إنما يتجه في الأساس إلى المخرجات التي تمتلك المهارات الناعمة كونها القادرة على إحداث التحول وإدارة عمليات الإنتاج وتوفير الفرص وخلق حضور واعتراف مجتمعي يضمن مزيد من الثقة والسمعة للمؤسسة،- وإن كان الجزم بذلك بحاجة إلى دلائل واثباتات من واقع التوظيف والتشغيل للقوى العاملة الوطنية.
وفي المقابل فإن عالمية المهارات الناعمة تضع نظم التعليم العالي الوطنية أمام مسؤولية نقل المهارات من النطاق المحلي إلى العالمي – رغم أهمية توطينها- ، إذ لم يعد كافيا أن تقصر إعداد مخرجاتها لدخول سوق العمل المحلي ، بل لا بد من أن تتسع نظرتها لتشمل إعداد الخريج للمشاركة في سوق العمل العالمية التي يحركها اقتصاد المعرفة، فإن الكثير من الفرص الوظيفية اليوم تتم عبر الفضاءات المفتوحة، وتخاطب الكفاءات بلغة المهارات الناعمة، الأمر الذي يتيح للشباب العماني المنافسة عليها، والانخراط فيها بما يعزز من توسيع قاعدة قبول المخرجات الوطنية خارج السلطنة، وهو أمر يستدعي ارتباطا ثلاثيا متينا بين التعليم والمهارات وسوق العمل الوطني والعالمي، وإحداث تجديد نوعي في الفلسفة والآليات والتوجهات والتخصصات ونظم التقويم، وتوطين الكفاءات الوطنية المنتجة والمتخصصة التي لها اثرها الايجابي في صناعة الالهام وإعادة تحريك هاجس الشغف في المخرجات.
أخيرا فإن المهارات الناعمة كتاب مفتوح يبحت عن قراء مخلصين مبدعين له يتعمقون في فهمه ، ويسبرون خصائصه بالمزيد من الابتكارية والالهام، وهو بالأساس يبحث عن إرادة مخلصة تجدد العهد الوطني بصدق العمل المشترك والمنظم والمقنن وتكامل الجهود الوطنية بين مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة بلا استثناء في إعادة هيكلة التخصصات في الجامعات، والتوجه نحو التخصصات النوعية ذات الصلة الأكبر بالمهارات الناعمة، كونها أنضج الطريق لسوق عمل متجدد واقتصاد منافس، وبالتالي نقل هذا التفاعل المنتظر تحقيقه والذي يفترض ان يطال جانب التخطيط والتنسيق بين مؤسسات التعليم العالي وسوق العمل الوطني من التنظير والتبريرات وسرد العقبات، إلى مرحلة التقييم الفعلي المشترك لنوعية التخصصات والبرامج والمخرجات، وقياس مستوى الحاجة إليها والجدوى المتحققة منها، وحجم ما يمنح للمهارات الناعمة في هذه التخصصات، والفرص والنماذج التدريبية والتعليمية المتاحة لها في الشركات ومؤسسات القطاع العام والخاص، والوصل ‘إلى قرارات استراتيجية تمنح مؤسسات التعليم العالي فترة محددة لتعيد ترتيب أوضاعها وتصحيح ممارساتها، وإعادة هيكلة برامجها وتحسين أدواتها وتقنين إجراءاتها، وتطوير برامجها الأكاديمية والبحثية والتدريبية وتطويعها لمواكبة احتياجات سوق العمل المتجددة من التخصصات العلمية والتقنية والمهنية.




Your Page Title