أثير- مكتب أثير بتونس
أجرى الحوار: محمّد الهادي الجزيري
كائنٌ حالِم لم يتخطّ التاسعة والعشرين من العمر يكاد لفرط خفّته لا يلمس بقدميه الأرض، عندما يعترضك في أحد أزقّة تونس لا تشكّ لحظةً في أنّه تمثال من التماثيل المنسيّة للنحّات الإيطاليّ جياكوميتي، ولكنّ الخفّة تتحوّل فورًا إلى ثِقَلٍ حالما يبدأ الكلام عن الأدب بصوته الهادي الرزين. محمّد الحباشة روائيّ وقصّاص وكاتب مقالة ومترجم يحذق أكثر من لسان، وعند أصدقائه الحميمين شاعرٌ مرهف وعازف عود.
أصدر روايتي “خلدون ميشال” و”رجل شارع روما” وترجم ثلاث روايات؛ اثنيتين منها عن الإنجليزية “فالكونر” للأمريكي جان شيفر، و”آن في آفونلي” للكندية لوسي مود مونتغومري، وثالثة عن الفرنسية وهي رواية “نارانتسولا” للكاتب الروماني باناييت إستراتي، وأصدر في القصّة مجموعة “مستودع الخنازير” الصادرة عن دار مسكيلياني للنشر، وهي المجموعة التي تُوجّت يوم السبت 23 أبريل 2022 بالجائزة الوطنيّة للكتاب في مجال القصّة أعرقِ جائزةٍ تمنحها وزارة الثقافة في تونس لأهمّ الأعمال في كلّ مجال من مجالات الكتابة.
بين المظهر الخارجيّ الهادئ والصخب الذي تضجّ به نصوصه تناقض مستفزّ، وبين الطيبة المفرطة للإنسان والتيمات التي يعتني بها الكاتب “الشرّ/العنف/القاع..” مفارقة تدعو إلى أكثر من سؤال، لذلك ارتأينا في (صحيفة أثير-مكتب تونس) أن نحاوره حتّى يتكلّم لعلّنا إذا تكلّم نراه.
ما الّذي دفعك إلى كتابة مجموعتك “مستودع الخنازير”؟ وهل يمكننا اعتبارها مجموعةً قصصيّة تهدف إلى تفكيك ظاهرة العنف في المجتمع التّونسي؟
أنطلقُ دومًا من سؤالٍ أو من شعورٍ بقلقٍ مّا، سرعان ما يتحوّلُ إلى شخصيّات تتركّبُ بالتّفكير فيها إذا لم تأتِ جاهزةً من واقعنا المعيش. حتّى كأنّي أراها ماثِلةً أمامي. كان السّؤال متلازمًا مع نظريّة جورج باتاي عن الأدب، وهي أنّ الأدب يُصبح مُمِلّا ما إن يبتعِد عن الشّرّ. وقد مهّدت هذه النّظريّة للسّؤال، كيفَ يُمكِنُ استلهام مخزون العنف لدى المجتمع التّونسيّ لإنتاج أدبٍ؟ ومن هنا كان البحثُ، تخييليّا وواقعيّا، عن أثر العنفِ في شخصيّات من مُجتمعنا وعن تركيبة الشّخصيّات العنيفة في حدّ ذاتها وما يمكن أن تُسبّبه من خرابٍ لأنفسها وللآخرين. ولعلّ القارئ يفهمُ من خلال هذا البحث، التنوّع داخل المجموعة في الكتابة عن هذه الظّاهرة. فهي لم تتناول الفئات الهشّة أو المهمّشة فحسب، بل سعت إلى تناول فئات أخرى كنّا نخالها خارج دائرة العنف مثل فئة المثقّفين. أعترِفُ بأنّ بعض القصص واقعيّة أو مستلهمة من الواقع، وبعضها الآخر تخييليّ تماما، وما يجمعها هو اشتغالها على مفهومِ الشّرّ، وتجليّاته في ممارساتٍ مثل التعذيب والانتقام والسّرقة والجريمة وغيرها. ولم أسع إطلاقا إلى تناوله بمنطق الإدانة، ولكن بمنطق الكشف عن منطقةٍ هشّة من الذّات الإنسانيّة والحفر فيها. منطقة مُظلمة ومحرّمة، ولكنّها تُشكّل جزءًا مُهمًّا من بشريّتنا. ومع ذلك، لا تدّعي هذه المجموعة أيّ تفكيكٍ للظّاهرة، فهذا من شأن الدّراسات الاجتماعيّة وإنّما كان هاجسي استدراج الظاهرة إلى منطقة الأدب وليس الأدب في تقديري سوى حفرٍ في خبايا الإنسان بأدوات الفنّ. لذلك يُمكن القول ببساطة إنّها قصصٌ تشتغلُ على تيمة الشّرّ.
يبدو تأثّرك بالأدب الأمريكيّ ولا سيّما ما عُرف بـ”الواقعيّة القذرة” واضحًا، فهل يمكن حسب رأيك نقل هذه التّجربة إلى الأدب العربيّ؟
من الأفكار الشّائعة حول تيّار الواقعيّة القذرة Kmart Realism الّذي ظهر في الثّمانينات في الولاياتِ المُتّحدة، هو ارتباطه بشكلٍ مُباشر بمفهوم القذارة، وهذا ليس صحيحًا. أي إنّ أيّ كتابة تشتغل على “القذارة” هي بالأساس تنتمِي لهذا التيّار، وهذه فكرةٌ مغلوطة، وإلّا لكان الماركيز دو ساد رائد هذا التيّار. إنّ القذَارة عند روّاد هذه التجربة لا تمثّل إلّا جزءًا بسيطًا مرتبطًا أساسًا بحياة الفئات الاجتماعيّة الهشّة من لصوص ومجرمين ومشرّدين وبوهيميّين وأقلّيات. وحسب رأيي يقوم هذا التيّار على ثلاثةِ أُسُسٍ واضحة المعالم: الأوّل: نقلُ الحياة اليوميّة للفئات الاجتماعيّة الهشّة أو المتوسّطة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. الثاني: نقدُ المؤسّسات الاستشهاريّة الأمريكيّة الكبيرة وما تنتجه من استهلاكيّة شرهة ومبالغ فيها في المجتمع الأمريكيّ. والغاية من هذا النّقد هزّ اليقينيّات المؤسّسة للحُلم الأمريكيّ الرأسماليّ الذي نرى معالِمه خاصّة في “أمريكا البطلة” في روايات “الأدب الأمريكي العظيم” (روايات نورمان مايلر أنموذجًا.) أمّا الأساس الثّالِثُ فَفَنِّيٌّ ويتمثّل في الكثافة الأسلوبيّة أو الإيجاز الـ minimalism في الكتابة. لذلك نشأ في القصّة القصيرة، ثمّ امتدّ بعدها إلى الرّواية. ومن الطّبيعيّ أن ينشأ أوّلًا في القصّة القصيرة لأنّها أكثر كثافةً من الرّواية التي تقتضي اهتمامًا أكبر بالجزئيّات والتفاصيل وتتطلّب معمارًا أكثر تعقيدًا وتشابكًا. من هذا المنطلق، لا يُمكن الاكتفاء بالقول إنّ نقل هذا التيّار إلى الأدب العربيّ مُمكنٌ، لأنّه حسب رأيي موجود سلَفًا في القصّة العربيّة، ولا سيّما تجربة المغربيّين محمّد زفزاف ومحمّد شكري، في نقلهما لحياة المهمّشين اليوميّة (الهيبيين والحشاشين) بأسلوبٍ يتميّز بالاختزال والدقّة والصّرامة، كيفَ لا والمغرب في تلك الفترة كان وجهة كتّابٍ أمريكيّين كبار مهّدوا الطّريق لأدبِ الواقعيّة القذرة، منهم تينيسي وليامز وترومان كابوتي وعرّابُهم بول باولز وحكايته مع شكري معروفة. لقد كان احتكاك الكتّاب المغاربة بهؤلاء الكتّاب الأمريكيّين إيجابيّا جدًّا من حيث التّبادل الأدبيّ والإبداعيّ على جميع الأصعدة. ينطبقُ هذا التيّار أيضًا، حسب رأيي، على قصصِ إبراهيم أصلان ومحمّد البساطي في مصر للسّبب نفسه: الحياة اليوميّة المصريّة في الأوساط المهمّشة وشحّ الأسلوب وأعني بذلك تخلّصه من الثرثرة ومن البلاغة في وجهيها الزخرفي والاستعاري.
تُعدّ القصّة جنسا أدبيًّا غنائيًّا يقوم على وحدة الصوت ووحدة الحدث، ولكنّ المتأمّل في مجموعتك القصصيّة “مستودع الخنازير” يُلاحظ أنّك تُعدّد الأصوات وتُعدّد النّسيج اللغويّ داخل النصّ فتمزج بين الفصحى والدارجة التونسيّة ولا تلتزم بوحدة الحدث وكأنّك تكتب القصّة القصيرة بمعايير الرّواية، فهل يعدّ هذا خيارا واعيا منك أم أملته عليك طبيعة التجارب التي تنقلها في نصوصك؟
الحقيقة هذا وذاك. لا يُمكن للوعيِ بالكتابة أن يتشكّل إلّا في ضوءِ التّجارب التي تنقلها. فطبيعة هذه التّجارب هي المحدّد للشّكلِ الفنّي الّذي تأخذه القصّة. فقد أكتب قصّةً على النّمطِ “التشيخوفي” الرّوسيّ الكلاسيكيّ، أي بوحدة الحدث والصّوت كما ورد في قصّة “عبير” الأولى في المجموعة. وقد أكتب قصّة بمعايير أخرى غير كلاسيكيّة، خاصّة وأنّ المعايير الفنّية القصصيّة قد تطوّرت. فقد أصبح بالإمكان أن تعتمد القصّة على حدثٍ أو اثنين أو ثلاثة دون أن يخلّ ذلك ببِنيتها، وأن تعتمد على أكثر من صوتٍ تماما كالرواية. فالقصّة بناءٌ ومعمارٌ شأنها شأن الرواية، وهي تقوم مثلها على التّفاصيل والحبكة والتّشويق وهذا يتطلّب حرّيةً أكبر في اختيار المعايير والأدوات السّرديّة. يَكفِي أن نقرأ بعض قِصص سكوت فيتزجرالد خاصّة في مجموعته الأكثر اكتِمالا “الشّرخ”، التي ينقل فيها حياةَ الأثرياء الأمريكيّين في العشرينيّات، فتتفرّع الأحداثُ في هذه الأوساط وتتعدّد الأمكنة والأصواتُ بين الشّخصيات ولا سيّما في الحوارات الطّويلة خلال الحفلات اللّيليّة التي يكون المؤلّفُ نفسه القادم من وسطٍ اجتماعيّ هشٍّ حاضرا فيها، أمام فئات ثريّة تتحدّث بتعالٍ وتُحصِي دولاراتها الكثيرة بزهو. وبصورةٍ أكثر تطوّرا نُلاحظ ذلك في أعمال أليس مونرو القصصيّة المتوّجة بجائزة نوبل للآدابِ، حيثُ أخذت فنّ القصّة إلى مناطق فنّيّة لم يأخذها إليها كاتبٌ غيرها من قبلُ. فتعدّد الأصوات في مجموعة مثل “هروب” لا يشملُ فقط الحوارات، بل مُداولةَ السّرد على ألسن شخصيّاتٍ متعدّدة تماما كالرواية، دون أن ننسى أنّنا إزاء قصّة. أؤمن أنّ الحدود الشّكليّة بين القصّة والرّواية ذاهبةٌ نحو الامّحاء. إذ يمكننا الحديثُ مستقبلا عن جنسٍ سرديّ موحّد.
ما الّذي يعنيه لك تتويج “مستودع الخنازير” بالجائزة الوطنيّة للقصّة؟ وهل في
ذلك اعترافٌ بفكرةٍ أو مشروعٍ أو نمطٍ مّا في الكتابة القصصيّة؟
أنا سعيدٌ بأنّ مجموعة “مستودع الخنازير” نالت رضا لجنة متكوّنة من أساتذة وكتّاب كبار مشهود لهم بالكفاءة أمثال الدكتور محمّد القاضي في السرديّات والدكتور محمود طرشونة الّذي أنجز أطروحة مهمّة عن المهمّشين والشاعر الكبير منصف الوهايبي والروائيّة والأكاديميّة المبدعة أميرة غنيم. الاعتراف مهمّ دومًا بالنّسبةِ إلى أيّ كاتبٍ يحاول ويشقى ويقضّي ساعات وساعات من العمل، وقد تتخلّل ذلك انقطاعاتٌ هي بمثابةِ لحظات للتّأمّل وشحذِ الطّاقة لإعادة الكتابة والتّحرير. وقد عشتُ متعة هذه التّجربة مع صديقي النّاشر شوقي العنيزي، الذي يقرأ بعينين ثاقبتين لا تفلّتان شيئًا، وهو مثلما يقرأ التّفاصيل يقرأ الكلّ وما تهدف النّصوص إلى قوله، فكان تبادل الملاحظات والآراء في التّحرير بمثابة تمرينٍ لعضلات الكتابة يُوفّر معرفةً ومتعةً في الآن ذاته. وهذا بفضل العمل المحترف الذي يقوم به شوقي ناشرًا ومُحرّرًا. أمّا الاعترافُ الفنّي فمهمٌّ جدّا. لطالما بقيت القصّة التّونسيّة عالِقةً في كلاسيكيّتها. وربّما كان هذا الاعترافُ، اعترافا بالتّجديد الذي نحاول إدخاله على القصّة التونسيّة والعربيّة مستعينين بما نعرفه ونقرؤه من القصّة العالميّة التي تتطوّر بوتيرة سريعة جدّا، دون الوقوع في الإسقاط. تونسيّا هناك قصصٌ طليعيّة متميّزة لأيمن الدبّوسي، في مجموعته “انقلاب العين” مثلا. يحاول أيمن الحفر في كابوسيّته الخاصّة، وينجح في ذلك باعتقادي حتّى وإن ولّد هذا النّمط نفورًا لدى شريحة معيّنة من القرّاء. تعجبني أيضًا تجربة بلقيس خليفة في كتابة القصص السّاخرة، في مجموعتها “ميتة مبتكرة” مثلا. عربيّا، يكتب العراقيّ حسن بلاسم قصّة طليعيّة متطوّرة، تأخذ من أشكالِ السّردِ الكافكويّ والكابوسيّ مثلما تأخذ من اختزالية السرد الأمريكي الحديث. أنا معجب بتجربة حسن وأقرأ كلّ جديد يكتبه. وأحثّ دوما على قراءة مجموعته “معرض الجثث.” وكلّ ما يجمع الأمثلة السابقة هو وِحدة التِّيمة المُشتغل عليها. فالقاصّ يحاول الحفر في تيمة عامّة تجمع قصصه، يتفرّع من خلالها إلى تيمات أخرى تماما كالروائيّ. ليست المجموعات القصصيّة مجرّد تجميع لقصص متفرّقة.
في النّهاية أحاول أن أكتب قصّةً تُشبِهني، وأستعير هنا مقولة الكاتبة الأمريكية توني موريسون عندما تؤكّد بأنّنا نكتب كُتبا نرغبُ في قراءتها. أكتب لمتعتي الشّخصيّة، كي أنفلت من سطوة الحياة اليوميّة والوضع العام البائس والروتين الخانق وكي ألقي بنفسي في نفوس مغايرة أخرى أسوةً بقول الشاعر “أوزّع جسمي في جسوم كثيرة”. أكتُبُ كي أتنفّس، مثلما أحبّ أو أذهب في نزهة أو أشرب قهوة مع الأصدقاء. فإذا ما مللتُ ممّا أكتبه، فهذا يعني أنّ هناك خللا مّا وأنّ القارئ سيملّ بدوره. إذا لم تكتب لمتعتك الشّخصيّة فكيف ستكتب لمتعةِ القارئ؟