د. رجب بن علي العويسي
– خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة
في عالم يموج بالصراعات والتحديات الفكرية وتعصف به رياح التغيير العاتية من كل حدب وصوب ، يعيش النشء حالة من عدم الاستقرار في ظل موجة التناقضات وتداخل الأفكار وتضارب المعلومات التي بات يتلقاها النشء من اكثر من مصدر ، وبشكل خاص من منصات التواصل الاجتماعي في عوالمها المتعددة واشكالها المتنوعة التي باتت تحتضن هذه التناقضات فيتلقاها الناشئة – أكثر الفئات العمرية حضورا في المنصات التواصلية – بدون محاولة البحث في مصداقيتها، أو التأكد من موضوعيتها، الأمر الذي أسهم في اتساع دائرة المشكّكات والمشتتات الفكرية القدوات خاصة مع غياب النماذج والقدوات وضياع الوجه المشرق للحقيقة، وظهور مروجي الإعلانات التجارية ومشاهير السوشل ميديا والباحثين عن الشهرة الذين أوصلوا للنشء فكرة امتلاك العصا السحرية في حل معضلاتهم والتعامل مع مشكلاتهم، حتى أصبحت المنصات بما تحتويه من معلومات وأفكار ومواقع وصفحات وحسابات وما تستخدمه من وسائل الترويج والدعاية الإعلانية بيئة حاضنة للشباب الحائر الذي لم يجد من المؤسسات الرسمية والأسرة الاحتواء والتقدير الذي يضمن الحفاظ على درجة التوازن لديه في افضل أحوالها، وما كان من هذه المنصات من استمالة الشباب والتزيين لهم والتغرير بهم وإدخالهم ضمن محيط أخر وعبر مواقع رقمية وصفحات شخصية وحسابات وهمية معينة يتبادلون فيها الحديث مع الآخر ويستمعون إليه بدون أي معرفه لما يحمله من أهداف وأجندة أو يروج له من أفكار تحريضية وتوجهات تكفيرية، وفي ظل غياب الرقابة الابوية وسلطة الوالدية وانتزاع هذه المنصات دور التوجيه والتربية من الآباء ومؤسسات التعليم نظرا لما تتيحه هذه المنصات من خصوصية التواصل والتفاعل.
وفي ظل هذا العالم المشحون بأحداثه ومتغيراته وظروفه اتسعت فجوة التواصل الاجتماعي للنشء، مع الآباء والكبار، واقتصرت على محيط التقنية والعوالم الافتراضية، وانشغال الأبناء بهواتفهم الشخصية واتصالاتهم مع هذا العالم المفتوح، لتؤسس فيهم حالة من العيش خارج منظومات الواقع، والتنمر الفكري واتساع الفاقد الأخلاقي والقيمي، وافتقار النشء إلى حس الاستماع والإنصات للكبار أو تحمل تعليماتهم، وسرعة إصدار الاحكام الجزافية على المواقف والانسحاب من المواجهة، لتتربع على فكر الناشئة بعض الظواهر الفكرية المقيتة كالنسوية والإلحاد والمثلية وغيرها ، والتي انطلقت شرارتها واتخذت لها حضورها وموقعها عبر المنصات التواصلية وهي اليوم تنمو بشكل مطرد، ويتهادى أمام احترافية ادواتها ووسائل مروجيها بعض النشء الذي لم يتغذ من أصول العقيدة والمبادئ والأخلاق والهوية ما يحصّنه من هفوات الأيام، ويجنبه سقطات الأزمان، واحتيال هذه المواقع والحسابات الوهمية، وبالتالي كانت الحاجة إلى من يأخذ بيد النشء إلى بر الأمان ويجنبه فتن الواقع وشباكه، ويؤسس فيه المنهج العلمي السليم والثقافة الرصينة والسلوك القويم ومسار العمل القائم على البحث والتقصي والتحليل والاستقراء والتفنيد والنقد البناء.
إنّ التعليم بما يحمله في بنيته الفكرية والمعرفية من ثوابت ومرتكزات ومناهج ومسارات وبيئة تعليم وتعلم تضمن المحافظة على درجة التفاعل والحوار بين النشء وفق أصول واضحة وأساليب مجربة ، تضعه أمام مسؤولية التصدي لهذه التناقضات وإعادة فقه التوازنات في حياة النشء بما يحفظ له مكوناته وحقوقه ويضمن استيعاب أفكاره وتحولاته فيقوم التعليم من سباته، وينطلق من موقعه، ويخرج من صندوقه حاملا معه الأمل والتجديد والتطوير والبناء والتحديث والقدرات والفرص ومناهج العمل ، لتصب جميعها في عالم النش وحياته ، وعبر تأطير دوره في فلسفة بناء الانسان وترسيخ العقيدة وتنشيط الفقه في سلوكه والانتصار للمبادئ والثوابت في قناعاته، واستنطاق القيم، وتحصين النشء من كل المشوهات والمعكرات والمطبات.
ومع القناعة بأن التعليم ليس العصا السحرية في إيجاد المجتمع المثالي الفاض، إلا أنه المؤهل لهذه المهمة مع ممكنات وعوامل أخرى في صناعة التوازنات في حياة النشء الفكرية والنفسية والاجتماعية والصحية ، فيتصدى للمؤثرات الداخلية والخارجية بأسلوب علمي ومنهج عملي وثقافة رصينة ومهارات ذكية ناعمه وأفكار ونماذج تطبيقية مجربة ، الأمر الذي يُكسبه قوة الحضور في فقه الناشئة، ويضمن وضوح معالم التحول التي يصنعها في سلوك النشء والخطوات التي يتجه إليها والفرص التي يعمل على بنائها ، ونوع المهارات التي يستدعيها ويضعها ضمن أولويات مناهجه وفي محتوى برامجه، خاصة في ظل ما نتج عن هذه التباينات والتناقضات من أضرار كبيرة على صحة الأجيال النفسية والفكرية في ظل ارتفاع درجة القلق لديهم وحالة الانسحابية والسلبية من المواجهة والحيرة التي بات يعيشها النشء حول واقعه والمستقبل المنظور لديه، والصورة السوداوية التي بات يٌسقطها واقع التعامل مع النشء ( تحديات الشباب وواقع التوظيف والتسريح والباحثين عن عمل ومؤشرات الجرائم والجناة ) نظرا لعدم وضوح المسؤوليات ودور المرجعيات الوطنية في هذا الجانب.
من هنا كان على التعليم اليوم التفكير خارج الصندوق ، وأن يتبنى مبادرات جادة في صناعة الإنسان والاستثمار في الرأسمال الاجتماعي البشري، وعبر رفع سقف التنسيق والشراكة مع القطاع الخاص ومؤسسات الثقافة والفكر، وفق خطة تعليمية تستهدف صناعة التوازنات في شخصية النشء وتفكيره وقناعاته ليحافظ على درجة القوة والحيوية فيه في أشرعتها الأربعة المحددة في السمو الفكري والرقي العاطفي والصحة النفسية والجسدية ورفع درجة الأمان والسلامة والاستقرار لديه ، فإن الرهان على هذه المهمة يرجع إلى ما يحمله التعليم من مفاجآت وحضور قادم يصنع من احتواء النشء فكريا ونفسيا وبدنيا واجتماعيا واقتصاديا، عبر تفريغ طاقاته وجهده في تحقيق أحلامه والوقوف عند اهتماماته، وتبخير الصور الذهنية السلبية والتراكمات والتخيلات، والانتقال من دور الاستهلاك لشخصية النشء الى الإنتاجية وفتح ارحب الافاق له للبحث والاكتشاف والاختراع واستثمار الموهبة وصقل الخبرة وتبني التجربة فيعبر عن ذاته بصدق، ويتحدث عن نفسه بحجم الانجاز الذي حققه، فيطور مهاراته ويبني قدراته بعيدا عن القوالب الجامدة التي تمجد التلقين وتتجه للحفظ وتلعب بالمشاعر وتثير صورة التمايز بين الطلبة في مشاركاته ودرجته الامتحانية، فيظل قيد الأوامر وتنفيذ التعليمات ونمطية التعليم التي ما زالت تضع النشء في قوالب جامده.
أخيرا يبقى على التعليم مسؤولية البحث في العمق البشري، وسبر المتغيرات التي تتعايش في خلجات النشء والمعطيات التي بات يحملها عالمه، وعبر التنويع في المسارات وفتح المجال للاختيار النابع عن إرادة الذات وتمكين النشء من اختيار نمط تعلمة وتوسيع الخيارات التعليمية لديه، ووجود بيئة التعليم والتعلم المريحة والنموذجية الجاذبة التي يمارس فيها النشء مواهبه، ويعبر فيها عن إرادته، ويجرب فيها مهاراته ويؤسس خلالها مشروعه الاقتصادي القادم الذي يبني عليه مسار المستقبل، وعندها تصبح صناعة التوازنات في حياة النشء محطة تحول لردم فجوة الانفصال عن الواقع وتدني توقعات التعليم من النشء، والصورة السلبية التي تسقطها الممارسة التعليمية غير المسؤولة في بيئة الصف وثقافة المدرسة والجامعة حول مفهوم التحصيل الدراسي والطالب المجيد والطالب المتفوق.