خاص- أثير
كاتب المقال: الشاعر العربي الكبير أدونيس
نشر الشاعر العربي الكبير أدونيس خلال الفترة الماضية مجموعة من المقالات بصورة حصرية في “أثير”، ونعيد نشرها للقارئ الكريم.
II. الورقة الثانية
– 1 –
« أن تَعيشَ هو أن تُميتَ الآخرين »: هذه « حكمة » عمليّة معاصرة، شبه سائدة، وتكاد أن تكون شعاراً أميركيّاً.
لكن هناك حكمة قديمة للفيلسوف الرواقيّ سينيكا، تلميذ زينون الذي عاش قرب بيروت، في قبرص، تنقضها تماماً وجذريّاً، تقول: « أن تعيش هو أن تكون مفيداً للآخرين ».
– 2 –
هناك حكمة ثالثة تسخر من الحكمتين السابقتين، قائلةً: كَلّا، لا تقدّم هاتان الحكمتان أيّ حلٍّ لأيّة مشكلةٍ يواجهها الإنسان. الحلّ الأوحد لجميع المشكلات هو الإيمان بأن المرأة خلقت من أجل الرّجل – خصوصاً أنّها خُلقت من ضلعه.
وليس على الإنسان إن شاء أن يعيش دون مشكلاتٍ وفي سعادة دائمة إلّا أن يضعَ كلّ يومٍ « قطعةً من الفضّةِ في صحنٍ تُرابيّ اللّون »، وفقاً للوصيّة التي كتبها القضاءُ والقدَر، وأن يضيف إليها قليلاً من السائل اللّغويّ المُصفّى الذي يَرْشح من جسم التاريخ،
وقليلاً من نُثَار ريشةٍ سقطت من جناح هُدْهُدٍ في طريقه إلى زيارة سليمان.
ثُمّ، لا بُدّ له من أن يقرأ على هذا كلّه، حوله وفوقه، ما يتيسّر له ويَستَحْسنهُ من المأثوراتِ التي تختزنها المخيّلة الجمعيّة التي ابتكرها السّلف الصّالح للخلَف.
– 3 –
عندئذٍ، سوف يرى أنّ الهُدهُدَ أصبح ساعياً للبريد بينه وبين السّعادة وأشْيائها التي يعجز الخيال – مهما كان حكيماً، عن تصوّرها.
– 4 –
لهذه المخيّلة، نترك نحن الفقراء الُمهمّشين، أن تتفضّل علينا وترويَ لنا بين وَقتٍ وآخر، بعضاً ممّا تقدرُ أن تبوحَ به، لكي لا ينقطع الحَبْلُ الواهِن الذي يربطنا بالسّعادة.
– 5 –
يقول الفيلسوف الفرنسي برغسون: « المسألة هي، تحديداً، أن نعرف ما إذا كان الماضي لم يعد موجوداً، أو إذا كانَ لم يعد مفيداً ».
وسؤالي لهذا الفيلسوف الآن هو:
ماذا نقول لبشرٍ يعتقدون على نَحْوٍ يقينيّ ومُطلَق أنّ « الماضي هو الموجود الوحيد المُفيد »؟
وهو سؤالٌ يولّد أسئلةً أخرى أختار منها الأسئلة التالية:
أ- ماذا نقول لإنسانٍ يخضع عقلُه بشكل كاملٍ لطغيانِ ذاكرته، حَتّى ليبدو وكأنّه ذائبٌ فيها؟
ب- ماذا نفعل، نحن الذين نعيش في بلادٍ اخترعت الدّولاب، ولا نجد فيها ما يكفي من الطرق الضّرورية لهذا الدّولاب نفسه؟
ج- ماذا نقولُ لعلّامةٍ في أمور الغيب، يحيا كمن يقف على حدِّ مفترَقٍ، ويقطَعُ بِسكّينهِ رغيفَ الهواء؟
د- ماذا نقول للغيوم التي شَكَت حالها إلى الأرض، قائلةً:
« لم أعد أطيق هذا الفضاء:
لم أعد أقدر أن أمشي فيه إلى الأمام،
أو اليسار، أو اليمين.
هكذا يتحتّم عَليّ أن أمشيَ إلى الوراء ».
ه- ماذا نقول لمن يتساءل باستنكار:
« من قال الأرضُ بيتي »؟
قولوا: « الأرضُ وَصيفتي ».
و- ماذا نقول لمن يقول خائباً:
وعدَتْنا بالعودة كلمة « عودة » –
وهو الوعدُ الذي لم يكن إلّا هجرةً ثانية.
ز- ماذا نقول لمن يسألنا:
« كيف يحيا شعبٌ يُخلق كلّ فردٍ فيه إنساناً كاملاً « وهو في الرَّحِم »؟
*********
*
*
*
*
شرارة
– 1 –
بيروت / شوارعُ – أزقّةٌ: ركامٌ يتفتَّتُ، ويستأنفُ خطواته، محزومةً بصدأ الشارع وحبل الغُبار. تكاد جدران العماراتِ أن تَشِفَّ أرقاً وحنيناً. تكاد خطوات العابرينَ أن تلتَطِمَ بأشباحِ أوراقٍ وكتبٍ ورُسومٍ ساهرةٍ على بقايا عَصرٍ يمحوه الحِبر.
قلتُ مرّة:
أحبّ قطارات الترحّل، لكن، غالباً لا أطيق دروبها.
دروبٌ – جُثَثُ طيورٍ وأطفال.
بين يديّ، الآن، كلماتٌ – قبورٌ.
هل تظنّ، أيها الحبرُ، أنّ المحابرَ مأهولةٌ بالجنّ؟
– 2 –
يميل إلى الشّحوب، وكان أزرقَ بحريّاً. إنّه الوقتُ في شارع الماما. كثيراً، سَهِرَت معه نجومٌ، وشهبٌ وطِلَّسْماتٌ لا يَعْرف أن يقرأها حتى اليونسكو الذي يجاوره، ضارباً خيامه. وكان للحبّ فيه جدارهُ الخاصّ الذي يفصل بين الألف والباء، ويَصل بين المطرِ والصّحوِ. أفرك أصابعي بملح الأيّام، وأفرك أهدابي بمنديل الشّمس.
عجباً ! لا تزال الأيّام تحتفلُ بالضَّغائنِ وتوزّع مسحوقَها على مساكين التّاريخ.
قمرٌ بلسانين.
الشمس نفسها أصبحت جداراً.
– 3 –
أما آن لكِ، يا أحجارَ الشوارعِ، أن تَصرخي؟
الفلَكُ يتأبّطُ ذراعَ الكارثة،
الفَجْرُ غسَقٌ آخر.
والأيام المريضة تزداد مرضاً.
هل دَرَستِ حالةَ الفضاء، أيّتها الرّيح؟
أدونيس
(بيروت، 5 حزيران 2019)