فضاءات

جورج طرابيشي: وليد محمود خالص .. استئناف الحوار

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

خاص- أثير
كاتب المقال: المفكر العربي الكبير جورج طرابيشي


نشر المفكر العربي  الراحل جورج طرابيشي مجموعة من المقالات بصورة حصرية في “أثير”، ونعيد نشرها للقارئ الكريم.

قبل نحو من خمسة أعوام ، وفيما كنت منصرفاً الى كتابة الفصول الأولى من المجلد الخامس من نقد نقد العقل العربي الذي صدر في الثلث الأخير من عام 2010 تحت عنوان : ” من إسلام القرآن الى إسلام الحديث ” ، سألني محاوري أثناء مقابلة صحافية أجراها معي : ” ما هي أمنيتك وأنت على وشك اختتام مشروعك في نقد مشروع محمد عابد الجابري الذي ذاع صيته تحت عنوان نقد العقل العربي ؟ “، فأجبت سائلي :
– لو كان لي أن أتمنى فإن أول ما أتمناه هو أن نكون كلانا باقيين على قيد الحياة عند صدور المجلد الخامس والأخير من نقدي لنقده. فعلى هذا النحو سيكون حوارنا قد دار بين حيّ وحيّ ، وليس بين حي وميت كذاك الذي دار قبل تسعة قرون بين ابن رشد وابن سينا .


وصحيح أن جوابي هذا بدا لي بعد نشره ” متنرجساً ” أكثر مما ينبغي، وذلك بقدر ما قد يوحي بأني أقيس قامتي الى قامة صاحب “تهافت التهافت ” في الوقت عينه الذي أكون قد قست قامة الجابري الى قامة صاحب ” تهافت الفلاسفة ” – علماً بأنهما كليهما من عمالقة الفكر التراثي – ولكن كان كل قصدي أن أقول إنها فرصة يعزّ نظيرها للحوار بين صاحبيْ قلم كلاهما على قيد الحياة ، وهذا في زمن تفتقد فيه الثقافة العربية المعاصرة افتقاداً ملموساً الى النقد التحاوري الذي غالباً ما يخلي مكانه ، على العكس ، للنقد الهجائي.
ولكن قانون الموت في الحياة شاء أن يرحل الجابري يوم 3/0/2010 فيما كانت مسودات ” من إسلام القرآن الى إسلام الحديث ” لا تزال قيد التصحيح في المطبعة.وكما كتبت في السطر الأخير من هذا الكتاب فإن ذلك النبأ المحزن جاء ليضع نهاية إضافية لما أسميته في الكلمة التي كتبتها في رثائه : ” ربع قرن من حوار بلا حوار “.
من هنا كانت مفاجأتي عندما حمل إليّ البريد الإلكتروني رسالة من د.وليد محمود خالص يبلغني فيها أنه أنجز بحثاً قائماً في ذاته ، يقع في نحو من أربعمائة صفحة ، تحت عنوان ” معضلة اللغة العربية بين الجابري وطرابيشي ” . وما ان بدأت بتصفح النسخة الإلكترونية التي أمدّني بها حتى أدركت ، بنفس مفعمة والحق يقال ، أن ذلك ” الحوار بلا حوار ” قد أثمر في خاتمة المطاف حواراً يستعيد ويستأنف ويطوِّر فصلاً أساسياً من ذلك الحوار الذي لم ينعقد بين الجابري وبيني ، وهو الفصل الذي كان مداره على اللغة العربية : أهي لغة بداوة أم لغة حضارة ، والذي استغرق نحواً من مئتي صفحة من كتابي ” إشكاليات العقل العربي ” رداً على الإشكالية المغلقة التي كان مؤلف ” تكوين العقل العربي ” حصر فيها كلاً من العقل واللغة العربيين باعتبار العقل العربي حبيس لغته ، وباعتبار اللغة العربية حبيسة الأعرابي وعالمه الصحراوي “الحسي – اللاتاريخي “.


ولن أدخل هنا في أي تفاصيل حول الحوار المستأنف الذي تصدى لعقده مؤلف ” معضلة اللغة العربية ” موظفاً نحواً من أربعمائة مرجع ومعيداً صياغة العديد من نقاط الاختلاف بين الجابري وبيني في عشرات من الإشكاليات المحكمة من منظور علم اللسانيات الذي أصاب تطوراً خارقاً للمألوف في العقود الأخيرة .حسبي على كل حال أن أقول ، باختصار شديد ، إن د.وليد محمود خالص أوصل البحث حول إشكالية اللغة والعقل في التراث العربي الى قمة غير مسبوقة . وذلك هو قانون جدلي للخصوبة في البحث وللتركيب التجاوزي بين النقيضين المتواجهين : فكل قمة جبل يكون قد تمّ الارتقاء اليها لا يجوز أن تكون هي محطة الوصول النهائية ، بل يجب على العكس أن تكون – وهذا هو مقياس كل بحث وكل تركيب جديد – محطة انطلاق للارتقاء الى قمة جديدة وأعلى.

Your Page Title