د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
لعل من بين الدروس المستفادة التي كشفت عنها حوادث الغرق المصاحبة للحالة الجوية ” منخفض المونسون” التي رافقت أجواء سلطنة عمان في إجازة عيد الأضحى المبارك ، وحوادث الصيف المتعددة خاصة ما يتعلق منها بحوادث الغرق ومستوى الالتزام بقواعد السلامة العامة في ارتياد البحر والشواطئ والبرك المائية والشاليهات أو الاحواض في المنازل، أو في اثناء نزول الأودية وبعد نزولها، أو كذلك في أثناء رحلات التخييم الاسرية والعائلية ، وإلى أي مدى يشكل طرح مادة السباحة في التعليم المدرسي لجميع الطلبة خيار استراتيجي لحل مشكلة حوادث الغرق التي تتجه مؤشراتها إلى الارتفاع ؟
وفي ظل ما أفصحت عنه هذه الحوادث مجتمعة من تدني مستوى الوعي المجتمعي بقضايا الامن والسلامة الشخصية والعامة، وما يعنيه ذلك من الحاجة إلى معالجة جذرية تتفاعل مع نواتج هذه الحوادث، وعبر تبني سياسات وطنية تعمل على تعزيز وتأطير وتأصيل محتوى الأمن والسلامة في مكونات العمل الوطني والتي تبدأ من مناهج التعليم والأنشطة الطلابية ، سواء من خلال إدماج مفاهيم الأمن والسلامة ومفرداتها ومبادئها في المناهج الدراسية والممارسة الصفية، وتأسيس محتوى تعليمي متكامل يتسم بالشمولية والعمق والاتساع والمرونة يعزز من وعي الطلبة بالمخاطر الناتجة عن الغرق والحوادث الأخرى ، ويكسبهم آليات التعامل معها وفق الوقاية منها قبل وفي اثناء حدوثها، بل ويتيح للطلبة مساحة أوسع في اختيار السيناريوهات والبدائل الممكنة المتعلقة بطرح مادة السباحة، ويستفيد من الممكنات التي يفترض ان تكون حاضرة في التعامل مع الموقف الحاصل ، وتقديم جرعات توعوية وتثقيفية كافية لضمان حماية الطلبة والحد من تعريضهم للمخاطر الناتجة عن الغرق أو تلك المخاطر المرتبطة بالحوادث اليومية كالسقوط والجروح والحروق والغرق او غيرها، بما يستدعيه ذلك من كفاءة المحتوى وكفايته وشموليته واتساعه وعمقه وقدرته على استيعاب نوعية الحوادث التي يتعرض لها الطلبة في واقعهم اليومي ، كما يستدعي توفير محكّات التقييم والمتابعة والمراجعة له وقياس مستوى تعلم الطلبة لهذه المفاهيم في الواقع، وإيجاد منصات تواصلية مع الآباء وأولياء الأمور وفئات المجتمع الأخرى في امتلاكهم لهذه المهارات.
وعليه يفترِض تشعب هذه الحوادث وتنوعها واتساعها وسرعة انتشارها، حراكا مجتمعيا جادا للوقوف على أسبابها وتشخيص مسبباتها والدوافع التي تقف خلفها وقياس مستوى الوعي الفردي المجتمعي في التعاطي مع هذه الحوادث والتصرف معها والسلوك الجمعي في التقليل منها في بيئات التعلم وخارجها، البحث في مسارات أخرى خارج الصندوق تقرأ منظومة الأمن والسلامة من زوايا مختلفة، بحيث تتكامل المنظومات المجتمعية في رسم معالم التحول الذي يجب أن يؤسس لنمو مستدام لمعايير الأمن والسلامة العامة في حياة الفرد، والبحث عن أدوات أكثر ابتكارية في تعزيز قواعدها في ممارسات مختلف فئات المجتمع، وتصحيح المفاهيم المغلوطة بشأنها، وإعادة تطوير وإنتاج مفاهيم الأمن والسلامة باعتبارها جزء لا يتجزأ من بناء شخصية المواطن، وتعبير عن الممكنات التي يمتلكها في إدارة واقعه، خاصة في ظل ما تمتلكه السلطنة عمان من مقومات بحرية ممثلة في شواطئها الممتدة التي تزيد على 3700 كم ، وما تشتهر به من أفلاج وعيون وأودية ومستنقعات وما تحتويه من سدود وبرك وغيرها من الأماكن المائية والبحرية التي تنشط فيها حوادث الغرق ويتعامل مع الأطفال والشباب والمجتمع بشكل مستمر .
وعليه فإن الإعداد المتكامل لشخصية المتعلم وتكوينها النفسي والفكري والمعرفي والأخلاقي والمهني في التعامل مع قواعد الأمن والسلامة الشخصية والعامة والمخاطر المتوقعة الناتجة عن الغرق منذ مراحل مبكرة، بحيث تتناول بيئات التعليم حوادث الطلبة ذات الصلة بحالات الغرق وما تتطلبه من جاهزية وبرامج واستعدادات أو غيرها من الحوادث في مراحل العمر المختلفة من واقع الإحصائيات والتقارير الصادرة من جهات الاختصاص والمتغيرات الديمغرافية التي تشكل صورة هذه الحوادث في المستقبل والفئات التي تقع منها من شأنه أن يوفر بيئة محاكاة للواقع تثري معارف المتعلم ومهاراته وقناعاته وتكسبه الممكنات التي يستطيع من خلالها أن يتعامل مع مواقف الحياة اليومية، وإدخال برامج السباحة والاسعاف والإنقاذ وغيرها ضمن أنشطة المدارس والجامعات، هذا الأمر من شأنه أن يصنع من تعلم الطلبة قيمة مضافة في ظل توجيهه لإنتاج الحلول وتوفير البدائل والسيناريوهات التي يعتمدها عندما تصادفه مثل هذه المواقف أو يستشعر وقوع الخطر فيسترجع الذاكرة المهنية والخبرات الدراسية المتوفرة لديه في التعامل الحصيف معها وحسن إدارتها والمواجهة الذكية لها القائمة على كفاءة الرد ومهنية السلوك واحترافية التصرف، الأمر الذي من شأنه أن يجنب المجتمع الكثير من التراكمات التي باتت تشوه صورة الممارسة المجتمعية الناتجة عن ارتفاع حوادث غرق الأطفال والشباب والكبار.
ويبقى الوصول إلى وعي مجتمعي مسؤول حول معايير الأمن والسلامة، عامة والتزامها نهج حياة وممارسة ذاتية، مرهونا بالموقع التي تحتله في المكون المجتمعي سواء في التشريعات والقوانين وإجراءات العمل، أو في السياسات التنموية والخطط الخمسية ، وفي فلسفة بناء الإنسان وتكوين المجتمع، واستحضارها في دور التعليم والإعلام والأسرة في ترسيخ ثقافة الوقاية وتأكيد مبدأ الاستباقية في البحث عن فرص الأمن والسلامة، وما يعنيه ذلك من أهمية تبسيط تدريس قواعدها بأسلوب سلس سهل يعتمد على مواقف محاكاة عملية وتعريض الطلبة لنماذج تطبيقية في بيئة التعليم تعكس حجم التحديات والحوادث التي يواجهها الأطفال والشباب والمجتمع، وإيجاد روح المبادرة والتطوير والتحسين بما من شأنه تجسيد هذه المفاهيم في واقع حياة النشء اليومية ، وفهم اليات التعامل معها، والمهارات والممكنات التي تضمن فرص الوقاية منها .
إن من شأن هذا التوجه أن يعزز من دور التعليم الخاص والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة ذات العلاقة بالاستثمار في التعليم في بناء نماذج عملية وتأطيرها في بيئة التعليم بالشكل الذي يضمن إنتاج فرص تعليمية قادرة على صناعة تحول في مسار تعلم الطلبة وإكسابهم مهارات الحد من حوادث الغرق ووضع التشريعات والقوانين المنظمة لهذا الأمر. فهل ستقرأ منظومة التعليم ومؤسساتها في أحداث الصيف المتعددة وتراكماته الكثيرة وارتفاع الحوادث التي راحت ضحيتها براءة الطفولة، محطة تحول لالتقاط الأنفاس والعمل الجاد نحو إدماج عملي لمفاهيم الأمن والسلامة والتعاطي مع مادة السباحة في محتوى المناهج الدراسية وأنشطة الطلبة والبرنامج اليومي، وتقييمها ورصد نواتجها ومتابعة تحققها، ثم تقييم العائد الناتج عنها على وعي المجتمع وتعاطيه مع حوادث الغرق في قادم الوقت.