مسقط-أثير
أعد الاستطلاع: زياد ميمان- إعلامي سوري
أصبحنا اليوم في زمن ما بعد الكورونا وعشنا فترة من الزمن مع ذواتنا فإلى أي مدى كانت فترة الحجر الصحي إيجابية على صعيد الكتابة والإبداع؟ وهل قدمت إبداعا مختلفا أضفته لتجربتك الإبداعية خلال فترات الحجر والعزل الصحي؟ وكيف تقيم إبداعك في الفترة الماضية ؟ وإلى أي مدى أثرت تلك الفترة في كتابتك وشعرك؟
هذه أسئلة وجهناها لعدد من الشعراء العرب فكانت إجاباتهم في السطور القادمة
طلال الغوار : أنتجت ديوانا شعريا
وفي البداية قال الشاعر طلال الغوّار من العراق:
“حين داهمنا فايروس كورنا، وفرض علينا حجراً صحيّاً، كنت أستحضر ما قرأت عن الأوبئة التي اجتاحت كثيراً من البلدان والمجتمعات البشرية عبر التاريخ، وانعكاسها على كتابات الأدباء، كشكسبير وجاك لندن والبير كامو الذين جسّدوا وباء الطاعون في كتاباتهم الأدبية. وماركيز عن الكوليرا في روايته (حب في زمن الكوليرا) وما كتبته الشاعرة العراقية نازك الملائكة قصيدة (الكوليرا) وغيرهم.
وبطبيعة الحال فإن للحجر الصحي انعكاساته السلبية على الانسان فضلا عن الخوف الذي يعتريه من هذا الفايروس اللعين، فقد اعتكف في بيته مجبراً وتقلصت إلى حد كبير العلاقات الاجتماعية وحتى داخل الأسرة الواحدة، والتواصل الاجتماعي المباشر وتوقف السفر وكذلك كثير من الأعمال والأنشطة الحياتية المتنوعة وبالتالي لهذا الوضع الصعب تأثيره النفسي والذهني على الإنسان، لكني أجد في الحجر الصحي جانباً إيجابياً بالنسبة لي وربما لغيري من الأدباء، وبما أني متواصل بالقراءة والكتابة فقد أصبح هناك متسع من الوقت ولا بد أن استثمره للقراءة والكتابة لهذا أجدني قد كتبت ديواناً كاملاً وطبعته عام 2021 في دمشق وهو( أسمّي جرحي شجرة) رغم أني لم أكتب عن وباء كورونا بشكل مباشر. ولكني وجدت أن هذا المتسع من الوقت والفراغ الكبير الذي أوجده الحجر الصحي الذي دام وقتا طويلا لا تملأه القراءة ولا كتابة القصائد، كان إرهاصا يعتمل في داخلي وأنا في وحدتي فوجدت نفسي اكتب شيئاً آخر مختلفا، قد يكون ملبياً لهذا الارهاص وبطريقة السرد وهو نوع كتابي يسمّيه البعض من النقاد( بالتجنيس ) إذ تجده يحتوي الشعر وشيئا من الرواية والقصة حتى اكتمل الكتاب ب 170 صفحة وطبع بدمشق أيضا بعنوانه ( نداء لصباحات بعيدة )
ويضيف الغوار:”إن مشروعي الكتابي وتحديداً الشعري هو في صيرورة وإغناء بما اقرأه وأعيشه بواقع الحياة لكني في فترة الحجر الصحي وما بعده اقتربت كثير من أسلوب (الفنتازيا) ووجدت فيها ما يمتص غضبي وبما يعبر عن واقعنا المشحون بالغرابة والدهشة وما أفرزه هذا الوباء المتفاعل مع إفرازات الحروب والصراعات التي تعيشها منطقتنا العربية.”
ياسين البكالي: فترة الحجر كانت فرصة لسبر أغوار الذات والغوص في الأعماق بشكل هادئ
فيما قال الشاعر اليمني ياسين البكالي:
كورونا رغم مأساتها التي عمت العالم وأربكت الحياة العامة كوباء يخيف الجميع وعطلت الكثير من المشاريع والأعمال إلا أنها بالنسبة لي أعطت مساحة للقلق الوجودي ونبش مضامينه المتعلقة بالكائنات وأهمها الإنسان ربما كانت فرصة لسبر أغوار الذات والغوص في الأعماق بشكل هادئ بعيدا عن فوضى المشاريع اليومية كينونة الإنسان ومآلاته في خضم المشهد المخيف الذي خيم على كوكب الأرض هذه الكينونة تشكلت في وعيي كشاعر ومؤلف لضمها إلى حالات النكوص البشري التي تعددت أشكالها وقد كتبت عدة قصائد عن كورونا وانزياحاتها المصيرية على بني البشر ولدي مجموعتين شعريتين منذ اندلاع كورونا حاولت فيهما أن أكتب بطريقة تتعلق بالإنسان والإنسانية واللغط الدائر في مفاهيم كثيرة للوجود ومنغصاته وأبجديات العيش وصراع البقاء الذي أصبح يدار بكائنات هلامية لم تكن في حسبان البشر من قبل إنها جدلية البقاء والتحكم في دوائر العرض وخطوط الطول لتفضي إلى دائرة ذات قتامة لولا بقية وسائل إنسانية تسعى لتدارك الوضع، وعلى فكره نحن في اليمن كانت كورونا تحصيل حاصل لعزلة طويلة فرضت نفسها علينا منذ سنوات بفعل الحرب وقد شاركت بقصيدة في ديوان شعري جمع كل ما قاله شعراء العرب عن كورونا
إباء الخطيب : خرجت من فترة الحجر الصحي بمسرحيات للأطفال والكبار
أما الشاعرة السورية إباء الخطيب فقالت:
الأزمات ذات البعد الإنساني تصهر الأرواح في بوتقة واحدة فتصبح النجاة بالمعنى الفردي أشبه بمهمة غير قابلة التحقيق وإن كان هناك زاوية معينة يمكن أن ننظر منها بإيجابية للموضوع من حيث استغلال الوقت وتعبئة الفراغ المفروض بما يفيد ويلهي فإن ذلك بحد ذاته كان بالنسبة لي شكلا من أشكال الفرض لا الحرية والإبداع فعل حر يحتاج لتخفف النفس في لحظة الإلهام وطيرانها في فضاءات حرة لقد كانت هذه الفترة إيجابية إذا أردنا القول على صعيد القراءة والبحث والاطلاع ومن ناحية أخرى الكتابة السردية أكثر من الشعرية وبطبيعة الحال الانغماس بالقراءة يؤجج مكامن الشاعر بالنقر عليها مرة بعد مرة فتتفجر لاحقاً وربما في وقت غير متوقع نصوصاً مشحونة بكل هذه المشاعر وردود الفعل المشتركة مع الآخرين والخاصة. أكرر دائما أن الإنتاج الإبداعي بين قوسين يحتاج إلى تفرغ وإلى العزلة الإيجابية لساعات يومية من دون ضجيج داخلي ومنبه داخلي ..وربما ساعدتني فترة الهدوء تلك على ذلك فخرجت منها بمسرحيات للأطفال والكبار وبعض الكتابات الأخرى ..كما استطعت وضع اللمسات الأخيرة على مجموعتي الشعرية الثانية وهي قيد النشر حالياً أما من ناحية تأثيرها في شعري فأقول لك إنني عموماً لا أكتب بذاتية مفرطة هناك تأثير جمعي واضح في نصوصي فأنا شخص اجتماعي أتأثر بطبعي بالمجتمع فكيف إذاً بالقضايا ذات الطابع الإنساني! لا أكتب عنها بشكل مباشر فلا تجد نصاً عندي مثلا عن الكورونا لكن ربما تظهر في نصوصي انعكاسات قادمة من العمق.. من خلال تفاصيل حساسة صغيرة لكنها كبيرة المفعول.
أما الشاعر المصري محمود حسن الذي أصيب بالمرض وشفي بفضل الله فقال:
لا شك أن فترة الحجر الصحي ( العزل ) كانت من أهم الفترات في حياتي وأغربها وأثقلها على الروح والذائقة كان عليّ أن آتي بسكين حاد لأزيل الزوائد من عصا عمري كله انسلاخ تدريجي من الحياة، واستقبال للموت في أية لحظة ( ربما لأنني اطلعت على التقرير المبدئي لدخول المستشفي ، حيث كتب كبير الأطباء عبارة ” المريض مصاب بكوفيد ١٩ و فشل تام في التنفس ” تمر حياتك كل بضعة ثوان شريطا يكرر نفسه تمد يدك لتحذف منه أو تضيف ولا تستطيع فترة كم كان الشاعر يتمنى أن تتاح له لينصبَّ على كتاباته وإبداعاته لكن في عزلة اختيارية فرق كبير بين أن تنعزل وبين أن تُعزل مشروعات كثيرة لم تكتمل أدبيًا وإنسانيا، وكانت تؤجل. ها هو الوقت قد حان ولم يعد أمامك من الوقت شيء لتنجز أقلها بُنيَّاتك وزوجتك وأهلك هناك يستعدون ربما لسماع الخبر الأخير لكن سبحان الله تُخلق أفكار جديدة ومشروعات أدبية جديدة كعناوين في رأسك وتبدأ تخط لا بيدك المغروسة فيهما الإبر التي تضخ المضاد الحيوي والأدوية إلى وريدك ، ولكن في داخلك وبعقلك الذي ما زال يظن أنه بإمكانك أن تحوز وقتا إضافيا إذا ما دخل عليك الطبيب متهللا وجهه قائلا ( مبروك المسحة الأخيرة سلبية ) نعم تتغير حياتك وصحتك وقدرتك بعد الجائحة ، وتبدأ إبداعًا جديدا متأملًا متخلصا من الزوائد والحشو . ” ألو … بابا … أنا هاجر جاي إمتي ، واحشني خالص ” **** كانت كلماتٍ تكتبها هاجرُ عبر الواتس فلم يُسمح لي أن أتكلم بعد أنبوبُ الأكسوجين على أنفي وفمي ، حتى عند طعامي ودخولي للحمام هل تعرفُ معنى أن تتمنى أن تُسْمِع طفلتكَ الصغرى صوتكْ لكن لا تقوى ؟! صارت أحلامكُ أن تخرج من محبسكِ الإجباري ولو لحظاتٍ كي تحضنها !! أما أصعبُ ما في هذا الأمرِ جميعِهْ أن تسألَ نفسك، كيف تفكر هاجرُ في الأمر الآنَ وهل تدمعُ عيناها اللحظةْ؟
****
حجازي : فترة الحجر كانت منتجة ابداعيا ولكنها استطاعت أن تخلق حالة من التفكير الجاد في الحياة والعلوم وفلسفة الوجود
الشاعر الأردني محمد تركي حجازي يقول:
في الحقيقة كانت فترة الحجر من الفترات المهمة ليس في حياة الشعراء أو المبدعين وحدهم فحسب بل شمل تأثيرها معظم سكان الكوكب وربما كل كائن حي يدب عليه ويسبح في عوالمه الممتدة في كل اتجاه وتأتي أهميتها باعتبارها حالة غير متوقعة غير معتادة أدت إلى تغييرات شاملة السلوك البشري وأنماط الحياة اليومية للمجتمعات أما الشعر وهو المحب للوحدة والعزلة والهدوء فقد أظنه وجد ضالته التي كان من المستحيل وفوق التخيل أن يحظى بها لولا كورونا التي أوقفت الحافلات والطائرات والمصانع وحتى صوت الخطا والأقدام فكان الهدوء الكوني ونقاء الهواء ونظافة البيئة أجمل ما تميزت به تلك الفترة ولكن في المقابل كانت العقول مشغولة بعدد الحالات والوفيات وانتشار الوباء والبحث الدؤوب عن سبل الفرار والنجاة لذا لم أجد أنا شخصيا أن فترة الحجر كانت منتجة إبداعيا ولكنها استطاعت أن تخلق حالة من التفكير الجاد في الحياة والعلوم وفلسفة الوجود والتي لاشك سيكون لها أثرا واضحا فيما سأكتبه مستقبلا ولا أظن أنني أستطيع الكتابة في جو مشحون بالتناقضات بين ما يشكل طقسا عالي الجودة من الهدوء والتوحد مع الذات وبين الشعور بانهيار العالم ونهاية البشرية لذا لم أتمكن حقيقة من استثمار تلك الفترة باستثناء استغلال بعض الأوقات بالقراءة ومراجعة الكتابات القديمة.
الفيلكاوي : لم تكن فترة الحجر الصحي في كورونا فترة كتابة بل كانت فترة تعبئة كانت فترة الانشغال بالأبحاث المؤجلة ومطاردة الأفكار
عبد الله الفيلكاوي
كانت فترة الحجر الصحي نعمة عظيمة وكأنها جاءت لنقف قليلا ونعيد ترتيب أنفسنا، وهذه فرصة لم نكن نتوقعها في عصر السرعة والمشتتات الكثيرة، إن أهم ما يمكنني ذكره من فضل هذا الوقت المستقطع أنها أعطتنا فرصة أن نتأمل حياتنا وكيف قضيناها وكيف نريد أن نكملها ومثل هذه التأملات غالبًا ما تجيء إلا بعد انقضاء مرحلة الشباب فهي من شيم الكهولة. بالنسبة إلى الإبداع الفني لم تكن فترة الحجر الصحي في كورونا فترة كتابة بل كانت فترة تعبئة كانت فترة الانشغال بالأبحاث المؤجلة ومطاردة الأفكار التي لم يكن الوقت يسمح لي بإعطائها حقها والكتب الكبيرة التي تحتاج إلى قراءة متأنية لتحصيل ثمرتها. لعل من المهم أن أذكر أن ديواني الأول” أذانٌ من القلب” صدر في سنة ٢٠٢٠ وهي سنة الكورونا وإنها لمصادفة لطيفة أن أحصل على وقتٍ مستقطعٍ من الانشغالات لأقيم تجربتي الفنية وأنظر كيف أريد أن أتجاوزها في المستقبل في أعمال ما بعد الديوان ، للآن لم أنشر أي عمل أو قصيدة جديدة ولكنني مازلت أعمل على ذلك لأن كل كاتب يحترم نفسه وجمهوره يشعر بضرورة تجاوز نفسه بعد إصدار مؤلفه الأول وكانت فترة الحجر الصحي فرصة مناسبة لهذا التأمل والعمل . لم تأثر فترة الحجر الصحي على كتاباتي لأنني كما أسلفت لم أنشر شيئا بعد ، ولكنها قطعًا أثرت في شخصيتي وهذا الأثر أراه إيجابيا للكاتب وإن اختلف كثير من المنشغلين بعلم النفس مع النتيجة التي توصلت لها ، إنني غير قادر على العودة إلى الحياة الاجتماعية كما كنت في السابق أصبحت أكثر انعزالًا وتخففت من الكثير من العلاقات التي جاءت بمحض صدفة الحياة وليست بالاختيار ، لقد أصبحت أعتاش أكثر في أعماق تراثنا العربي وأتأمل أحداث واقعنا المعاصر وأردها إلى جذورها الثقافية العربية مما دعاني إلى إحياء فنون شعرية شبه ميته ولكنها من كنوز حضارتنا العربية، ولا شك أن حدثًا نفسيًا واجتماعيًا مثل هذا سيترك خلفه أثرًا على الكتابات المستقبلية فارتقبوا إني معكم من المرتقبين