أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج
أي إحساس ينتابك وأنت ترى والدك يُسرق من بين يديك؟
الربيع هذه السنة لم يكن جميلا. بقايا عواصف آخر الشتاء غيرت لون السماء في ذلك الصباح. نوار اللوز الذي يعلن عن الربيع تأخر قليلا.
أي إحساس ينتابك وأنت ترى والدك يُسرق من بين يديك؟
لا أعرف كيف عاد والدي إلى البيت ليلا ومكث هناك حتى الصباح. أول ما فتحت عيني ركضت نحوه. صرت أراه كثيرا في أحلامي وهو يجري، يركض وراءه كلب أسود. أخذني من يدي، وغسل وجهي كما يفعل عادة. ثم غطى وجهي ورأسي بالمنشفة الكبيرة التي جاء بها من باريس. تصحبه في كل مكان. ما يزال بها عطر غامض، يفرض نفسه عليَّ. لم يكن عطر أمّي الذي تضعه في الأعراس وهو مستقطر من النوار البري. يشبح البنفسج، وكنت أحبه. امي في النهاية التي لا تملك إلا طيبتها وحبها، وتفانيها في خدمة خدمة العائلة، في بيت واسع على رأس مرتفع هضبة تِغراو (كلمة بربرية تعني الحرب) الذي يحده يسارا بيت عمي أحمد، وعمي رمضان، والغرفة التي تنام فيها الخادمتان اليهوديتان ميميت ونينوت، الهاربتان من جبال بني يزناسن، بالمغربن بسبب تهمة غامضة لم يتوقف عندها جدي الذي كان يقول دائما: لا تسأل من يطلب منك النجدة عن الأسباب، انقذه أولا وبعدها اسأله. يمينا بيت عمي الكابران (اسمه الحقيقي، ولد علي) الذي فقد بعض أصابعه بسبب قذيفة كادت تودي بحياته، في الحرب العالمية الثانية وهو يواجه الدبابات الألمانية في مونتي كاسينو (جبل كاسينو) في جانفي 1944، لاختراق خط غوستاف والالتقاء بالقوات التي نزلت في أنزيو، غرب جبل كاسينو. ارتكبت مجازر كثيرة ضد النساء والرجال من ساكنة الجبل، اتهم الجزائريون المجندون بالقوة في الجيش الفرنسي، لكن الكل كان يعرف أن المجندين كانوا تحت قيادة فرنسية؟ عمي ولد علي الذي عاش طويلا يحكي الفظاعات التي لا مسؤولية لهم فيها، ولكنها نفس الانتقامات التي كانت تمارس في الجزائر عندما لا يحصلون على ما يريدون من معلومات، وعمي لعرج المالك لدكان صغير، هو الوحيد في ذلك المكان، يوفر القهوة والسكر والزيت والدقيق.
مسح ابي وجهي وأنا تحت غطاء المنشفة، ثم سألني: هل ترى شيئا. قلت لا. حتى أنا لا تراني؟ واصل بتعجب. أغمض عينيك إذن وستراني. أغمضت عيني وفجأة بدأت أراه. هو. تماما وفق الصورة التي كونتها عنه والتي لم تستقر، لكنها كانت حاضرة في ملامحها الكبرى. حاولت هذه المرة أن أشبع من وجهه لأني كنت أعرف أن مجموعته من جيش التحرير ستمر ليلا وتأخذه، ولا نراه إلا بعد شهر، يأتي بعدها موظفو لاساس SAS، يسألون عنه، وتقدم لهم أمي نفس الإجابات السهلة. لم يجد عملا، فذهب إلى مدينة الغزوات يبحث عن عمل في الميناء. ونفس التتمّة: أول ما يعود، يأتي إلى لاساس. وعندما ينسحبون، تغيب أمي في الكانون.
فجأة دخلت عمتي عربية (زوجة عمي ولد علي) تجري. قالت لأمي بلا تريث: قولي لأحمد يهرب. العسكر بدأوا ينتشرون في الطريق وفي الهضبة التي تقود إلينا. متأكدة من أنهم قادمين لأخذه. خرجت أمي لترى ما كان يحدث في الخارج، وكانت الكلاب قد بدأت تنبح وكلبنا تعالى نباحه بصوته الضخم الأبح، ثم بدأ يعوي. يفعل ذلك عادة عندما يرتعب لطلب النجدة ونزع سلسلة عنقه وتحريره ليتمكن من الهرب. فجأة سمعنا رشقة رصاص جافة:
– قتلوا بوي.
حاولت أن اخرج، لكن أمي منعتني من ذلك.
انتهى والدي من ارتداء المانطو ترواكار الرمادي الفاتح، الذي يغطي ركبتيه، وهو نفس المانطو الذي جاء به من فرنسا قيل سنتين، بعد أن كان قد لبس تريكو تحتي أخضر بخط أبيض على اليافطة، ثم قميصا أبيض أيضا وربطة عنق كحلية لماعة، تسريحة شعره لم تتغير، من الأمام على الوراء. عندما خرج عند الباب كأنه كان يعرف. واجهه أربعة رجال بلباس عسكري، بأسلحة وُجِّهت كلها نحوه. تبعهم دون مقاومة. لم يقل ولا كلمة.
عندما خرجت، وجدته واقفا عند مدخل باب عمي الكابران، باستقامة، متكئا كان على الحائط ورجله اليمنى معقوفة نحو الحائط إلى الوراء، كان يرتدي حذاء أسود متماشيا مع لون بنطلونه.
العساكر الذين توزعوا في الهضبة، احتلوا البيوت مكلها. طوقوا بيتنا كليا.
كان أبي شاخصا في الأفق البعيد. رأيت وقتها مجموعة “الحركة” (عملاء الاستعمار من الجزائريين) قد أخرجوا أمي وحنا وزوليخة وخيرة وزهور، وعماتي، ومميت ونينوت، وساقوهم كلهم كما يساق قطيع نحو المذبحة. كان الصراخ كبيرا والفوضى عارمة والكلمات المتقطعة، تخترق أذني: ما تلمسنيش يا وحد البياع (خائن)، تعقبها ضربة جافة صفع وركل، ثم صرخة ثانية وعاشرة: الحقير. الخاين. خليني. ابتعد عني. م ضربات أخرى وصرخات طويلة. اقتيدت كل النساء إلى “دار الفقيه” للتعذيب، كما كانت تسمى وهي عبارة عن بيت حجري، كانت تحشر فيه النساء ويتم استنطاقهن، وأحيانا اغتصابهن. كان يتم إدخالهن بالمجموعات القليلة. لا أدري ماذا فعلوا بهن، لكنهن كنّ يخرجن بعيون منتفخة من شدة البكاء والآلام وانتفاخات كثيرة على الوجه. خضراء بنت الحاج بوزيان، لم يتجاوز سنه 17 سنة. لم تكن قادرة على المشي. تحركت خطوات يتبعها خيط متعرج من الدم الأسود. تتراكض النسوة تحتضنها. في الليلة نفسها وجدوها معلقة على الخشبة الوسطى من سقف البيت. هي نفسها الخشبة التي كان ينزل منها حبل الولادة. النساء عندما ينتابهن المخاض، تضع القابلة حبلا في تلك الخشبة لأنها الأصلب، وتقبض عليه المرأة وتحاول أن تدفع الجنين إلى الأمام. نساؤنا تلدن وقوفا.
ركضت نحو والدي لأستنجد به وأحكي له قصة خضراء التي كانت تنزف.
– بابا اخذوا البنات للحويطة، لدار الفقيه.
– روحوا يا بابا راني جاي وراءكم (سأتبعكم)
زاد عدد العسكر المحوطين به. كانوا على بعد مسافة صغيرة. التفت والدي نحو خروبة الجد. شخص فيها طويلا. يقال إن جدي عندما طرد من غرناطة غبر ميناء ألميريا لم يحمل معه شيئا إلا بعض المخطوطات العزيزة عليه، ونقلة شجرة الخروب التي كانت تعرش في حديقة البيت، في حي البيازين. وهي شجرة ألفية مقاومة. وعندما وصل إلى العدوة الأخرى غرسها، وقابلها حتى اشتد عودها. في أيام الجفاف الكبرى كانت الشجرة الوحيدة التي تظل خضراء.
عندما عادت أمي صوب من دار الفقيه، أشر لها ابي براسه بألا تقترب، لكنها اقتربت منه على الرغم من الحرس. دفعها “حركي” بقوة إلى الخلف، فسقطت على ظهرها. في اللحظة التي رفع الحركي ساقه عاليا ليرفس بطنها. دفع والدي “الحركي” إلى الوراء، وهو يصرخ:
قام الحركي ليعاود الكرة، لكن والدي قال للضابط الفرنسي المكلف بحراسته:
– أرجوك، أوقف هذا الوغد، إنها حامل، سترتكبون جريمة مزدوجة. Je vous en prie, arrêtez-le, elle est enceinte, vous allez commettre un double crime
أوقف الضابط “الحركي”، ثم التفت نحو والدي
– كأنك لست من هنا.
– عشت في فرنسا مدة طويلة.
– واضح. فرنسيتك راقية.
– لكنها لم تمنعكم من إهانتي.
كنت واقفا ملتصقا بلباس أمي، أنطر إلى المشهد، ولا أستطيع الحركة. لم أكن أفهم ما كان يدور بينهما لكني لاحظت من عيني الضابط أنه فهم كلام والدي. كنت سعيدا أنهم لم يؤذوه.
– لماذا أوقفوك إذن؟
– لا أدري لماذا؟ جئت عطلة لرؤية العائلة بعدها لم أستطع الخروج.
– غيابك الطويل عن البيت عمق الشبهة نحوك. لم تستجب لدعوة لاساس La SAS
– لم يتركوا لي فرصة. كنت رايح اليوم. هل هذا لباس فلاق (مقاوم وطني)؟
– لا. ولكن الأمر يبدو كبيرا. أنت متهم بتهريب الأسلحة للفلاقة.
– فتشتم المطامير، وقتلتم الكلب، والأغنام، هل وجدتم شيئا. مجرد وشاية.
– الذي وشي بك يعرفك جيدا. ماذا كنت تفعل في فرنسا.
– كنت أعمل ونقابي.
– هذا أعرفه.
– وكنت أدافع عن باريس أضع الحواجز مع رفاقي من العمال لتعطيل دخول النازيين، على أمل انتهاء الحرب هنا، وتعود أنت على أهلك واستقر أنا في بيتي مع أولادي.
– فقدت والدي أيضا في المعابر.
– ربما كنا رفاقا.
– كل ما أعرفه هو أنه سقط على الضفة اليسرى من نهر السين.
– من المؤكد أنه كان من المجموعات التي أغلقت طرقات نهر السين. مات الكثيرون هناك.
– يا إلهي.
أحنى الرجل رأسه ثم انسحب بعد أن أعطى أوامره للجند بأن ينسحبوا قليلا على الوراء. مسد على رأسي وقال:
– يمكنك أن تقف مع والدك قليلا. نشرب معه قهوة ونعيده لكم.
كنت أعرف أن والدي لا يشرب القهوة مع هؤلاء.
التصقت به مرة أخرى، ثم أومأ لأمي عندما وصلت سيارة جيب صغيرة، بأن تسحبني منه. نزل شخصان أحدهما كأنه عرف والدي. تحدث بالعربية.
– شفت يا السي أحمد حتى السباع تقع في الفخ.
– عن أي فخ تتحدث يا علي. تعرف جيدا مآل الضباع.
– أنت تناور لكن ذلك لن ينفعك في شيء. هل تعرف أني أنا من أنقذ بنتيك من الاغتصاب. تقول واش تعرف عن شبكة تهريب الأسلحة ونطلق سراحك.
– في سنك يا علي، وسن الجبلي، يجب أن تخجل. انت صغير وتحرق نفسك من الآن.
– يا عمي أحمد، انا اعرفك. أنت رأس الشبكة التي تنشط في المنطقة الجدودية الغربية.
– أنت تعرف أني حاولت أن أشتغل في رحى كامي لطحن الدوم الذي كان يرسل للغزوات وهناك يتم استغلاله لحشو المطارح، لكني لم أستطع.
– لماذا لم تات لاساس.
– كنت استعد لذلك. هل رأيت فلاقي يلبس مثلما البس الآن؟
تقدم منه الضابط حليق الشعر. وضع في يديه قيدا.
أعرف أنه لم يكن يريدني أن أرى المشهد القاسي الذي ظل برأسي بحرفية تفاصيله. بحثت بعيني عن الضابط الآخر، لم يكن هناك، كأن الأرض ابتلعته. طُلِبَ من والدي أن يركب في الخلف من سيارة لاجيب. انحدرت بسرعة مخلفة وراءها سيلا من الغبار حتى اختفت واختفى معها والدي.
ركضت عبثا وراءها تحت صرخات أمي وأخواتي، وقهقهات العساكر الذين شرعوا في النزول نحو سيارتهم العسكرية GMC، التي تُرِكتْ تحت، في الطريق الوطني.
توقفت سيارة جيب. أنزلوا والدي ثم أركبوه في المصفحة التي كانت رابضة على حافة الطريق. لم تنتظر طويلا، انطلقت محدثة صوتا مخنوقا وقويا بمحركها، ثم غابت بسرعة بين الجرف والوادي الجاف المؤدي إلى العدم.