أثير- محمد بن علي الوهيبي، كاتب عماني
كان لابد لمن يمتلك هذه الجغرافيا الإستراتيجية والخصوصية الحضارية أن يتمتع بتراث عريق حيث تقع عُمان في أقصى الجنوب الشرقي لشبه جزيرة العرب ومضيق هرمز شمالا واليمن من ناحية الجنوب الغربي، وتعد بلادنا منذ أقدم العصور مركزا حضاريا نشطا فاعلا ومؤثرا؛ الأمر الذي جعلها تبني صلات تجارية عبر البحار مع شعوب الهند والصين، وبلاد ما بين النهرين وشرق البحر المتوسط وحوض النيل، وشمال أفريقيا، حيث كان هذا التواصل والتمازج يمثلان دليلين قاطعين على أن هذه البلاد يجب أن تمتلك موروثات عظيمة من العادات والتقاليد والآداب والفنون.
وإذا أمعنا النظر في التنوع البيئي لهذه الأرض سنجد تأثيراتها عبر الأنماط اللغوية المختلفة وفي الأزياء، والمأكولات الشعبية باختلاف المناطق العمانية شمالها وجنوبها شرقها وغربها، ولكن ورغم كل هذا الثراء الطافح بالجمال نجد أن بعضا منه اندثر ونفجع بأن بعضه ألبس هويات أخرى.
أقول هذا رغم أن هناك من عمل وسعى إلى تأكيد أصالة وعمانية تلك الموروثات ولا أنكر هذا إلا أننا الآن وعندما نجلس مع أنفسنا في لحظة صدق ومكاشفة نلمس ضياع الكثير منها وحديثي هنا سيكون في جانب واحد فقط هو مجال الفنون وبخاصة الفلكلور والموسيقى الشعبية العمانية الثرية والمتنوعة وإلى أي مدى اشتغلنا على إمكانية دمج الموسيقى التقليدية مع الموسيقى الحديثة لتصل إلى ما وراء الحدود؟ وهل استطعنا تقديم هذا الفن للعالم بشكل يحفظ هويته العمانية؟ وهل يوجد لدينا رموز أثروا في هذا المجال يعرفهم الآخرون كما نعرف نحن ونحفظ أسماء رموز الفنون الموسيقية والفلكلورية اليمنية والسعودية والكويتية والبحرينية وفنون الدول العربية والعالمية؟ خصوصًا وأن الفنون الموسيقية تعد لغة عالمية وتوصف الموسيقى بأنها لغة الأحلام والأعماق ولغة العصافير.
كما يمكن للموسيقى أن تسهم كثيرًا في كسر الحواجز وردم الفراغات بين الثقافات وتقبل الآخر ويمكنها أن تكون أداة فاعلة تسهم في صياغة التفاهم والتسامح ومن شأنها أن تخفف من حِدة الغلو والتطرف، ولربما يشير ويرمز وجود دار الأوبرا السلطانية في مسقط إلى الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه في تجاوز وطمس حالة الجمود الفكري، حيث تعد الأوبرا مَعلمًا حضاريا وتنويريًا وشاهدًا حيًا على ثراء عُمان واحتضانها لكل ما من شأنه أن يعلي من قيمة الإنسان على هذه الأرض وهذا هو ما كان يرمي إليه السلطان قابوس طيب الله ثراه عندما رسم بريشة الفن والإبداع تحفة فنية معمارية فريدة وعمل على إيجاد هذا الصرح المهيب الفخم والفاخر في مكان انتقاه بعناية كبيرة، وأحاط جانبه الشرقي بحديقة وروضة أندلسية غنّاء ليتناغم ويتآلف وينسجم التراث المعماري العماني والعربي والإسلامي؛ بحيث يمكن لكل من يزور مسقط أن يرى هذا البنيان ومن خلاله يمكن أن يستوعب هذه البلاد ومكانتها ويدرك بأن هذه الإيقونة المعمارية بما تحتويه وترنو إليه هي إحدى رسائل عمان الخالدة للإنسانية.
كما يمكن لهذه الدار أن تستضيف العديد من الفعاليات كحفلات الأوبرا والحفلات الموسيقية والمسرحية والمؤتمرات والملتقيات الثقافية والفنية.
وأتذكر أن الفنان الكبير أبوبكر سالم تطرق في إحدى مقابلاته في التلفزيون العماني إلى أن مدينة صور العمانية كانت مزدهرة وحية بفنونها الجميلة، وعلى سبيل المثال أشار إلى الجدل الذي أثير في لبنان حول أصول أغنية يا بنات المكلا بعدما غناها الفنان فهد بلان وصادفت قبولا وذاع صيتها ولاقت انتشارًا عربيًا لافتًا في ذلك الزمن بحيث نسبتها بعض البلدان إليها.
لكن الفنان أبو أصيل باعتباره إحدى العلامات الفارقة والخالدة في الفن والموسيقى العربية أكد بأن هذه الأغنية عمانية الأصل بكلماتها وألحانها، ولم يخفِ أبو أصيل إعجابه الشديد بالفنون العمانية خصوصًا الموسيقي والفن الصوري واستشهد بالفنان العماني الكبير سالم راشد الصوري وأشار إلى تاريخه الريادي في الأغنية الخليجية. كما ذكر أبوبكر سالم في هذا اللقاء بأن الكوبليه الأخير في أغنيته “نار الشوق” اقتبسها من الفن والفلكلور الصوري العماني.
ولا أنكر هنا بأنه ما يزال يوجد بعض من التراث الموسيقي لسالم بن راشد الصوري وسمعنا له العديد من الأغنيات التي أطربتنا وأمتعتنا خصوصًا عندما قدم يا مركب الهند وهو فلكلور بحري قديم، طبعًا لا أحد يمكنه أن يجزم بشكل قاطع حول أصل هذه الأغنية هل هي عمانية أو يمنية لكنها تظل أغنية خالدة في الذاكرة العربية.
كما لا يمكن تجاهل جمعان ديوان الذي قدم أيضا أغاني متنوعة استقاها من الموروث والفلكلور الظفاري الثري والمتفرد مثل”شجرة الهيل مغروسه على راس وادي” وغيرها من الأغنيات. وأبدع سفير الأغنية العمانية سالم علي سعيد في تقديم أغنيات ما تزال عالقة في الذاكرة خصوصا تلك التي تعاون فيها مع عوض العمري والصومالي. ومعزوفته وأغنيته لمن السفائن هي التي حلقت بصوته في سماء الأغنية الخليجية في بدايات الثمانينات.
كذلك لا يمكننا تجاهل بعض أغنيات يعقوب نصيب وحكم عايل وشادي عمان وعوض حليس ومسلم علي ومحمد حبريش وسالم محاد ومحمد المخيني وأيمن الناصر وصلاح الزدجالي، لكن تظل وتبقى شهرتهم فقط داخل حدود الوطن إلا فيما ندر من أغنيات!! وللإنصاف وحتى لا يهضم حقهم يحسب لهم بأنهم اجتهدوا في سبيل تقديم شيء من الفن الموسيقي العماني عندما حاولوا النبش في الموروث والفلكلور العماني رغم قلة الدعم والمساندة من الجهات المختصة، ورغم وجود من حارب الفن والموسيقى وعدّها حسب فهمه منطقة محظورة ملغومة ومسيجة بالفساد والإفساد لا يمكن الولوج إليها بأي حال من الأحوال بحيث أدى هذا الفهم وهذه النظرة في كثير من الأحيان ببعض الفنانين إلى ترك الساحة الغنائية ومغادرتها نهائيًا.
