أخبار

الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب لـ “أثير”: دالية أمي وليالي ديسمبر الحزينة

الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب لـ “أثير”: دالية أمي وليالي ديسمبر الحزينة
الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب لـ “أثير”: دالية أمي وليالي ديسمبر الحزينة الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب لـ “أثير”: دالية أمي وليالي ديسمبر الحزينة

أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج

ما معنى أن تفقد أما وهي تملأ الحياة كلها، بل هي الحياة نفسها؟ ما معنى أن تفقد أما وأنت لم تفطم من صدرها حتى ولو كان عمرك نصف قرن وبعض السنوات؟ ما معنى أن تشعر فجأة بالفراغ من حولك، والكثير من الخوف والعزلة، واتساع رقعة الصحراء والقفر التي يحملها كل واحد فينا؟ ما معنى أن تصبح فجأة بلا أم وبلا امرأة لا أحد يشبهها في حنانها وفي عنفوان حنينيها؟ ما معنى تلك الظلمة التي تنزل على عينيك وحدك بينما الناس يستحمون كل صباح بشمس لا تغير دورتها؟ في أعماقك، تؤمن بأن الموت حق وأنه مثلما يمس الآخرين سيمسك أنت أيضا لكنك ترفض تلك المعادلة القاسية التي تذبحك في السر وتضعف قلبك. هو الموت الذي لا نعرف قسوته أو لا نريد أن نعرفها، إلا عندما يصعقنا فيمن يعني لنا الكثير، فنعيشه بحواسنا ولغتنا وحزننا واسئلتنا الباردة التي لا نملك حيالها إلا الإذعان والقبول. أن تفقد أما في شهر “ديسمبر” هذا يعني أن عليك أن تتحمل الصقيع الذي سيحول جسدك إلى كتلة صلبة وتحتاج إلى دفء العالم كله لكي يذوب الجليد الذي كساك، وتسترجع بعض حركتك. لم أر يوما أمي في الفراش إلا قليلا. وقليلا ما تمرض. آخر من ينام وأول من يستيقظ. كلما فتحت عيني وجدتها تعزل الصوف وتهيء الخيط في شكل كويرات متوسطة وعندما تتكاثر تجمعها في كيس من الخيش وتأخذها عند “الدراز” الذي يحولها من خلال معمله الخشبي الصغير وأدواته القديمة التي تكاد لا توجد فيها قطعة معدنية، إلى غطاء صوفي طويل “بورابح” يقي العائلة كلها من برد الشتاء القاسي. البرد عندنا، يشبه الإبر التي تنغرس في الجسد. أو ربما لان البستنا لم تكن خشنة بالشكل الكافي. ثم توقد النار وتشعل الحطب اليابس في “المجمر” الذي تحمله إلى عمق البيت للدفؤ. وتشيع فجأة بعض الحرارة في البيت الذي كان قبرا قبل مجيء النار. عندما نستيقظ تكون رائحة الخبز المحروق قد ملأت البيت. الجدة تجد متعة كبيرة، وانا أشبهها في ذلك، في وضع خبر البارحة الذي بدأ ييبس، على الجمر لتسخينه ولا يتم ذلك إلا بحرق جوانبه فيصبح الخبز ممتعا ولذيذا. وعندما أفتح عيني أجدها قد خبزت “مطلوعات” كثيرات حتى قبل أن تشرق الشمس. أو تقطب الأغصان الزائدة لداليتها التي تحبها. الدالية “الكرمة” هي جزء من حياتها ونظامها في فصول معينة. قالت لي يوما ما سأحكي لك عن هذه الدالية وكيف وصلت إلى هنا. فقد قطعت رحلات طويلة كما كل النباتات الأندلسية منذ أن جاء جدك الأول الوخو “الأحمر” خروبته من غرناطة التي كانت حسرته التي قتلته. أول من سحب معه عطر الأندلس الذي كنا نشمه في الخروب. ولماذا الخروب والكروم يا ترى. يقول الرواة إنه قال: الخروب طعام للجميع، يأكله الجائع فيشبع بسرعة. وتأكله الدابة فتنشك وتتقوى. ونصنع منه الزيوت الثمينة التي تضيء وجوه النساء وتجعلها لماعة كما قرن الخروب عندما تضع شمس الصباح فيه. والكرمة ليست فقط عنبا طيبا ولكن أيضا وسيلة الحياة للخروج من دمار اليومي وعنفه. عندما يخمر في الأخبية الترابية يصبح شربه ماء للحياة. في “احتفاليات العنب” كانت القرية تخرج في النهار تبيع عنبها الذي طورت نوعياته مع الزمن، وفي المساء يتبادل الشباب الاقداح ويرقصون ويغنون أغاني “الصف” القديمة التي لا فرق بينها وبين أغاني الغجر إلا في اللغة فحتى معاني الكلمات نفسها. الإيقاعات نفسها. كانت الدالية تعني لأمي الكثير. قالت إنها ستروي لي قصتها بالتفصيل، لكنها نسيت أن تفعل ذلك، ونسيت أن ألح عليها في غمرة الحياة. لو كانت الأيام والشهور والسنوات تشترى لاشتريت بعضها ومنحتها لأمي فقط لأسألها: ما سر الدالية يا أمي؟ مرة قالت، ونحن في حديث هارب عن شيء آخر: كانت هذه الدالية في الأصل فرعا صغير، يابسا. نزع(ه) من دالية بيته القديم المتوحشة، وكانت بدأت تموت، وقال خذيه واحفظيه. سألت(ه) كيف أحفظ فرعا ميتا؟ قال: اسألي والدك سيدي محمد الصغير. فهو سيد الدالية والوحيد الذي حفظ صنعة “حي البيازين” الغرناطية عن جده الأول. أخذت الفرع، تقول أمي، وأنا متأكدة من أنه سيموت كما الفروع التي غرستها في طفولتي ولم تعط شيئا. أخذ الفرع وبالكاد كان يكتم ابتسامته. سألته ما معنى ذلك. قال: كان العاشق في الزمن الأندلسي، على هذه التربة، عندما يمنع المرأة فرعا ذلك يعني أنه يحبها، ويقول لها اذكريني. إن اخضرّ الفرع هذا يعني أن الحب حقيقي وسيكبر، وإن اصفر ويبس ومات، فهذا يعني لا داعي من هذا الحب. ثم قال والدي السي محمد الصغير: انظري يا ابنتي، للدالية لها أصحابها. سأعلمك الصنعة. كل واحد اليوم أصبح يدعي أنه قادر عليها. للغرس أصحابه. ثم بدأت أنظر إلى والدي وهو يأخذ رأس الفرع ويحزه بمنجله المسنن، ثم يفتح الطرف التحتي عدة فتحات. يضع الجزء السفلي من الفرع في الماء، في إناء صغير، لتدخل الحياة إلى عمقه ثم يخرجه بعد يومين، ويقصه ثانية قليلا ويحفر حفرا صغيرة في الجهة السفلية. ثم يأتي بإناء صلصالي ويضعه فيه إلى أن يبرعم فيخرجه ويضعه في المكان الذي يختاره، عادة وسط الدار. ويحفر حفة عميقة في الأرض ويردم ثلثي الفرع ويتركها هناك إلى أن تظهر براعم كثيرة في جهتها العلوية. الدالية تطلب الصبر الكبير. من دون بدون صبر، فهي تموت ولا تعطي شيئا. تقول أمي. كانت هذه الدالية المعرشة فرعا صغيرا في الأصل أخذته من(ه) وعدت به إلى البيت وها هو أصبح دالية كبيرة. وهذه (الهاء) تعود على من يا أمي؟ قصة طويلة، “شي يوم راح نحكي عنها حتى تمل من سماعي. شي يوم كي يكون الخاطر هاني والبال مليح” انتظرت هذا اليوم “الخطر هاني” لكن أمي كانت كل حياتها عملا ويوميات صعبة حتى أصبحت عادتها لا تهنأ ولا تستقر في مكان. العمل هو معناها وجدواها. لكن الموت سبقني إليها. كان سؤالي العفوي قبل نصف قرن وبعض السنوات. لا ندري لماذا بعض الأشياء فينا تموت بسرعة وبعض وأخرى وهي قليلة لا تموت أبدا. اعتناء أمي بداليتها هو جزء من حياتها اليومية. منذ أن رحلت تمددت الدالية حتى المسجد المقابل لها. وملأت سطح البيت. كم من سنة مضت دون أن تقطب، وكم من زمن مر وهي وحيدة تستقبل الشتاءات المتتالية، على متى ستصبر فالدالية تموت أيضا عندما يغيب أحبابها. في كل فرع من فروعها شيء من عرق أمي والكثير من ملامحها ومتاعبها وأفراحها. حتى عندما عمرت في السن، كان يمر عليها ابن القرية خبير التقطيب، ويقطبها، لكن كل شيء يتم تحت رقابتها ونظراتها المتقدة.

ماذا يعني أن تفقد أما كم أنت في حاجة ماسة إلى حكاياها في هطا الزمن البارد.

كانت فقط أمي، وكان اسمها “أمزار” أي إلهة المطر، في اللغة الأمازيغية القديمة.

في ذلك اليوم الذي خط ذاكرتي مثل الجرح القاسي، قمت من حلمي مذعورا كما لو كان حقيقة، قلبي مشدود وحركاتي مرتبكة، ومبهم ما يقول بأن مكروها ما يرتسم في أفق الخوف. عندما رفعت رأسي في تلك الظلمة القلقة، رأيت نجما هاربا يجري بسرعة مجنونة، ثم فجأة، لمحته يتبعثر في شكل شلالات ضوئية، وشهب ونقاط صغيرة، ثم لا شيء إلا مساحة بيضاء من بقايا المسافة المضيئة التي قطعتها النجمة الهاربة.

بالعادة أفرح بهذا المشهد النادر الذي تشكل رؤيته وحدها لحظة جميلة أتتبعها عادة حتى النهاية، لكن في تلك الليلة لم أشعر بأية سعادة. خوف ما سكنني. تذكرت حنّا فاطنة وأنا أجلس في حجرها، وهي تقص علي قصص النجوم وأسرارها: لا تقلق يا سينو. لكل منا نجمته في السماء. النجوم تتعب أيضا كما البشر. عندما يمر عليها زمن طويل وتشعر بالعياء، تتبعثر لتضيء أكوان أخرى للمرة الأخيرة، في زوايا لا يصلها أي نور. سألتها وهل لي نجمة في السماء. قالت نعم. انتظر فقط أن يسودَّ السماء، وتنسحب كل الغيوم، في ديسمبر تكون السماء قريبة. وفي ليلة من ليالي الشتاء رأيت النجوم على مرمى البصر وفي صفاء كامل، فأدركت بالفعل أن السماء أصبحت قريبة كما قالت حنّا. قريبة أكثر مما تخيلت. مدت أصبعها عميقا في السماء، وقالت أنظر. نظرت. رأيت نجوما كثيرة. قالت دقق كثيرا. النجمة التي تبتسم تلك هي نجمتك. ثبتُّ عيني في نقطة معينة. فجأة رأيت نجمة تبتسم. أدركت ليلتها بسرعة أنها نجمتي. أصبحت لعبتي المفضلة، وطوال فصل الربيع.

في مثل هذا الشهر الحزين انسحبت أمي على رؤوس أصابعها من هذه الدنيا التي عبرتها كشهب هارب، بالصمت الذي يليق بالكبار الذين يحبون الحياة كما يحبونها للآخرين. منذ تلك اللحظة لم أكبر إلا قليلا، ظللت طفلها المدلل الذي تنتظره بعد كل غياب، يدها على قلبها حتى يضع حقيبته عند قدميها ويطوقها في عناق تمنيته دوما ألا يتوقف أبدا. تماما كما كانت تفعل مع والدي الذي كان يغيب وراء نداءات المتوسط، وفي السفن الخشبية الثقيلة، حتى نظن أنه لن يعود، فتطمئننا هي بإشراق ابتسامتها وهي تنظر إلى السماء: سيصل قريبا. بعد أيام قليلة يدق الباب فنركض نحوه جميعا وتتخلف هي حتى ينتهي من احتضاننا وتقبيلنا. كل شيء كان يرتسم على محياها، وفي بؤبؤ عينيها. الفرح، الخوف، القلق. وعندما يكون مزاجها عكرا تتحول الألوان التي بعينيها إلى لون واحد، لون الزرقة الهاربة، نحو ظلمة حزينة.

تلك كانت أمي وأكثر، فرحا وحنينا وذاكرة مضاءة ومضيئة.

أنظر إلى السماء هذه المرة حزينا، أرى فراغا كبيرا بين النجوم. أبحث بلا توقف عن أمي. في ديسمبر تكون السماء قريبة. لابد أن أرى نجمة أمي.

سأراها، اليوم الرابع من شهر ديسمبر على الحواف.

Your Page Title