فضاءات

الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب لـ “أثير”: التّرْحِيلُ وخَطُّ المَوْتِ

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج

نحن في شتاء 1959. الرياح العاصفة زادت حدة والبرد يتكاثف أكثر فأكثر.
حركة السيارات العسكرية زادت دوراتها. الفرنسيون ينشدون المارسييز ويتباهون. أخيرا تم الانتهاء من خط موريس الشائك والملغم والمكهرب، الذي يفصل الحدود الجزائرية المغربية، لتفادي عبور الثوار الجزائريين الذين شكل لهم المغرب دائما خط تراجع وحماية منذ حروب الأمير عبد القادر. يتكون خط موريس (نسبة لموريس وزير الدفاع الفرنسي أندري موريس) من سياج كهربائي يبلغ ارتفاعه مترين ونصف. يسري في هذا السياج تيار كهربائي بقوة 5000 فولت. وعلى جانبي السياج، يوجد حقل ألغام من كلا الجانبين، الوسط الفاصل خصص لمرور عربات دوريات المراقبة. بلغ طول خط موريس في الغرب الجزائري 700 كم على الحدود مع المغرب، 460 كم على الحدود مع تونس حيث دعم بخط ثان هو خط شال. نقطة القوة الأساسية في خط. موريس هو أنه حدّ من الهجمات على الحدود المغربية، لكنه لم يمنعها من الحدوث. فقد استخدمت فيه أحدث الأنظمة الإلكترونية في وقتها، وأجهزة الإنذار والرادارات والكاشفات الليلية، وحرية حركة القوات المكلفة بحراسة الخط. الأمر الذي جعل الخط صعب العبور، لكن الثوار طوروا من جهتهم أيضا، وسائلهم وقد حدثت الكثير من العمليات وقتها، وتم اختراق الأسلاك الشائكة بكل عتادها ونظمها، لكن الألغام والكهرباء خلفت آلاف الضحايا.
فجأة سجنت قرية سيدي بوجنان وقرى أخرى تم جمعها، داخل المربع المحاط بالأسلاك الشائكة. وضعت مختلف المداشر داخل المنطقة المراقبة. وتم تجريب الكاشف الضوئي الكبير ليلا، فحوّل في ثانية، ظلمة القرية إلى نهار تتكشف فيه أدق التفاصيل. كل هذا لصد هجمات الثوار الآتية من الجهة الغربية.


امتد خط موريس من أقصى الغرب حتى عين الصفراء في الجنوب الجزائري. وأصبح تهريب الأسلحة إلى الداخل، عبر المنافذ التقليدية، أمرا صعبا. نصف عائلتي أصبح من الجهة الأخرى، بالمغرب. وانقطع الاتصال بشكل شبه كلي مع أعمامي. حنا فاطنة وأمي وأخواتي وأخي بقينا في أرضنا، بينما جزء كبير من العائلة كان من الجهة المغربية بعضه في خيام، ومن كان لديه قليل من المال اكترى بيتا في وجدة، في فيلاج كولوج البراني والدخلاني، أو بني درار. وبدأت حياة أخرى شديدة القسوة تتشكل في القرية.

بعد أن إقرار تهجير سكان المداشر المحيطة إلى داخل القرية التي كانت تطعم الثوار وتخفيهم، بدأ التطبيق الفعلي لهذا التهجير نحو القرية التي لم يكن بها إلا الولي الصالح سيدي بوجنان التفالي، الذي يظلل القرية بنخيله ويحميها من عوارض الأيام، كما يعتقد السكان ويتبركون به. والسقاية التي يرتوي منها الكل، العسكر أولا بصهاريجهم العسكرية الرابضة يوميا بالقرب من السقاية. ويشرب من نفس العين السكان والحيوانات ويغسلون فيها ألبستهم. فهي عين ينام من تحتها نهر كبير يقال إن منبعه الصحراء، ماؤها كثيف، ويفيض في فصل الشتاء. يسيل ليل نهار بلا توقف، ويروي بمائه الضائع، حقول رحى القايد، عمي بن عاشور، وجنان موح الميلود وجنان خالي قدور الشعيبي، قبل أن يرتمي في وادي أولاد ابن عامر، وادي العسّة، والقورارة وجبال القلب، التي كنت أخاف الاقتراب منها بسبب عواء الذئاب الجائعة في مساءات القرية، ويروي أيضا الثكنة العسكرية في مرتفعات جبل الرصفة التي تتحكم في المنطقة كلها وفي حركة ناسها. عندما يحل المساء يبدأ الكاشف الضوئي في العمل. كنا صغارا وعندما يتحتم علينا الأمر بجلب الماء من السقاية، عندما يبدأ في مسح المكان ننبطح على الأرض، حتى يمضي نحو جهة أخرى، فنركض صوب السقاية وعندما يضلنا ثانية نتخفى من جديد حتى نصل إلى السقاية. النملة إذا تحركت يتم كشفها وقصفها من الأعالي.
أصبحت القرية في حالة منع دائم للتجوال، استمر حتى الاستقلال.
ثم بدأت عملية الترحيل. فقد طُلِب من جميع سكان الدشرة ونحن منهم الرحيل باتجاه القرية وهيئت أرضية القعدة، المقبرة القديمة، لنصب الخيام، وكان على كل واحد أن يشكل خيمته بما عنده من أفرشة وأغطية. من حظنا كان عندنا قيطونا كبيرا وضخما أفضل بكثير من خيام الأغطية، جاءنا به زوج خالتي رحمة، الحاج علي.
كانت الأوامر صارمة. على كل العائلات أن تكون على هضبة القعدة وكل من يتأخر بعد الخامسة، يصبح عرضة للنيران. تغلق بوابة عبور الأسلاك الشائكة على الساعة الخامسة بالضبط. لأول مرة يعطي السكان قيمة للوقت بهذا الشكل. انتقلنا من الوقت القروي المفتوح إلى الوقت الثابت والدقيق. ترى من بعيد البغال والاحمرة المحملة بكل شيء، أفرشة وأواني الطبخ والطاولات، بريدون أن يصلوا قبل الوقت النهائي بعد انتهائهم من أعمالهم.
رتبت حنا وأمي الأغنام في البيت القديم، ووضعت أمامهم التبن. وأغلقت عليهم بالشباك خوف الذئاب وأطلقت سراح بوبي الجديد والصغير ليبدأ في وظيفة الحراسة الليلية. بينما البقرة الحلوب، بعد أن تم حلبها قبل الخامسة، وضع حليبها في الأواني النحاسية، وربطت في اسطبل الحيوانات. الوحيد الطليق في المراح كان بوبي الصغير الذي كان نباحه أكبر من عمره.
وضعت أمي الأفرشة على ظهر البغل وكل ما له علاقة بالجانب المعاشي وتحركت تتبعها حنا على ظهر حمارها الأبيض، وحسن بجانبها وأنا برفقة أمي وخيرة وزوليخا والزهور، نمشي مقتفين خطوات الدواب. كانت أمي تقيس الوقت بالشمس والظلال. المغيب معناه وصول الليل، ويكون المعبر مغلقا وتكبر الأسئلة والمشاكل التي على المعني بها أن يجيب عنها.
من بعيد ترى عشرات الدواب مصفوفة في استقامة، هكذا شاء الحاكم الفرنسي والحراكة:
– اصطفوا بانتظام كما لو كنتم في يوم الحشر. كلكم عظام جهنم والخوف والكذب.
– وعلاه يا منصور وليدي هذا الكلام. نحن أبناء عمومتك.
قال أحد الأهالي، من عرش العواشرة.
– يعطيكم العمى. لقد سرقتم كل شيء مني. حتى حقي الصغير في الأرض. تسطروا واللي يخرج على الصف نخليه يبات في الخلاء والرصاص والذئاب الجائعة. تسمعونها ليليا من شدة جوعها. والله ديركم كاسكروت (ساندويش)
يقف الناس ويمرون واحدا واحدا بدوابهم، عبر معبر الأسلاك الشائكة المفتوح قبل أن تشعل الأضواء ويشتغل الكهرباء وكل من لمس الأسلاك يلتصق في مكانه بسبب ارتفاع الفولتاج الكهربائي.
نظر إلينا العسكري. كانت أول تجربة مرور. تركنا نمر بدون تفتيش. سألني
– يبدو نسيتني. كيفه والدك.
رفعت رأسي نحوه لأول مرة أرى وجهه كاملا. وجه طيب وعينان هادئتان.
– والدي تعرف أين هو بعد أن عذبوه وكاد أن يموت أمام عيني.
– كبرت بسرعة يا سينو.
– حالة والدي كبّرتني.
– لا تخف سيعود
– في المرة الماضية أيضا قلت لي ذلك.
– سأسمح لك ولأمك برؤيته.
التفتُّ نحو أمي:
– يقول بأننا يمكن أن نرى والدي.
– كما هو كما الآخرين. كذابين. وغمت رأسها ومرت بالبغل تبعتها الجدة بحمارها الأبيض ثم أخواتي وأخي. صعدوا مباشرة نحو القعدة التي أشر لهم باتجاهها:
– ستجدون من يدلكم لنصب خيمتكم في مرتفع القعدة أحسن من تحت بسبب الأمطار الشتوية التي تنحدر وقد تغرق الخيمة. وستمنحون قطعة أرض لبناء بيت، وراء الولي الصالح. سيمر الضابط ويريكم قطعة الأرض التي تبنون عليها بيتكم.
صعدنا نحو القعدة. وجدنا حارسا بائسا، سألناه. قال أرض الله واسعة. اختاروا أي مكان يستركم. كل واحد كان منهمكا في نصب خيمته الهشة المصنوعة من الأغطية والأغلفة والبطانيات. كل شيء يستر العائلة التي وجدت نفسها فجأة في العراء.
قالت حنا: ننتظر إبراهيم.
فقالت أمي هو أيضا غارق مع مساعدة نفسه وأقاربه قبل ما يطيح الليل.
وضعنا القيطون، ثم دخلنا من تحت، حتى نتمكن من رفعه، لكننا لم نستطع. يحتاج لبنائه بعض الرجال الصحاح. أمي كانت حاملا بعزيز. مالت خشبة السارية إلى الأمام وكادت تجرنا في أثرها لولا عمي البكوش الذي كأنه نزل من السماء، وموح الطويل بقامته المديدة غير الاعتيادية. قال لأمي ارتاحي. الركيزة ثقيلة عليك. حفر حفرة عميقة وكلما قال البكوش
حفرموح الطويل أكثر وهو يكرر ” مازال شوي” بعدها ساعدنا على بناء الخيمة مع عمي البكوش. رفع السارية لوحده وعلاها عاليا بعد أن حفر لها حفرة عميقة في الأرض. هو لا يتكلم لكن بحركاته فهم أنه لا داعي للإصرار. أوقفنا القيطون ثم بدأنا جميعا نشده بالأوتاد الجانبية بينما زوليخا كانت تثبت مع عمي البكوش القيطون. حتى أصبحت السارية مثبتة بقوة في الأرض. وأخذنا نشد الأحبال ونربطها بالأوتاد لكن عمي البكوش أعاد تثبيتها كلها، تساعده أمي وزوجته وعمتي الصبحية.
شربنا القهوة، وعندما حاولا الخروج كانت عشتهما قد أخذتها الرياح، بينما أحجار البَرَد بدأت تسقط وتضرب القيطون بعنف شديد. لكن القيطون ذا اللون الكاكي قاوم العاصفة بقوة. الكثير من الناس تأذوا بالبرد. ولم تهدأ العاصفة إلا بعد ساعات، وجد الجيران الذين فاجأهم البرَد، في قيطوننا ملجأ من الهرب من العواصف، والبَرد وأصبحت رائحة القهوة في البيت هي الغالبة من كثرة ما وزعت أخواتي القهوة على الهاربين ثم بدأ بعدها كل واحد يعيد بناء خيمته. كان قيطوننا من الخيام القليلة التي قاومت السقوط.
في الصباح مع شروق الشمس كنت عائدا من المدرسة التي أصبحت قريبة سمعت صراخه في القيطون. كان عزيز قد ولد.
مضى الربيع بسرعة وحل صيف قائض وثقيل. شهر جوان. كنت في المدرسية وأحلم بأخي الصغير عزيز الذي كان كل يوم يرفض مغادرة بطن أمه
– سيمناه عزيز. هو آخر العنقود.
– لماذا الأخير يا أمي.
ثم تنبهت فجأة أن أبي لن يعود.
– كان جسد عزيز ملفوفا في قماط صوفي لا يظهر إلا وجهه الصغير وعينيه الحائرتين.
أخذت التاقنتة إلى بيت العم محمد الطويل، القريب منا جدا.
سالتني الجارة
– تقول زاد عندكم مزيود.
– خويا عزيز.
– هوووه ألف مبروك حبيبي.
أخيرا جاء الصغير الذي انتظرناه طويلا، صغير سيغطي ظهري في النكبات. مثلما أغطي ظهر أخي حسن.






















Your Page Title