أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج
لا أدري كيف كان قلب أمي، لكني تخيلته شديد التمزق. كانت منهكة وجريحة. تنظر في كل الأمكنة بضياع. سيل من الدموع يخط وجهها باستمرار. ومن حين لآخر تتناهي إلى مسمعي تنهيدتها العميقة والمتقطعة، مشفوعة بجملة لا تبرح لسانها: ماذا فعلنا يا الله؟
العائلة كلها مجتمعة حول المجمر. أحاول ألا أسمع شيئا، لكن كل شيء يعبر مسمعي حتى وأنا في الفراش معي أخي حسن النائم. كنت أرتعش وأنا في الفراش على الرغم من جو الربيع المعتدل. شيء من البرد نزل على الأجسام كلها. هل هو الخوف الذي يأكل من الداخل كمبراة تحز الأجساد النحيفة والقلقة؟ أم هو البرد الحقيقي الذي كثيرا ما يخترق فصل الربيع؟
يمَّا ترضع أخي عزيز الملتصق بصدرها، من حين لآخر يغفو ثم يقوم فاتحا عينيه على النصف. حنا فاطنة تتمتم ثم تبسمل وتحوقل. زوليخا وضعت العشاء على المائدة ثم جلست بالقرب من أمي، واضعة يدها اليسرى في كف أمي. الكل ينظر إلى الأكل دون أن يمد يده.
تمتمت زوليخا: كلوا. وكأن لا أحد سمعها. نظرت إلى عينيها. ثم مدت أصابعها إلى خدها المورد:
– ما يكون غ الخير يا زوليخا بنتي.
– واش من خير يا يما؟ قلبي يحدثني بشيء جارح.
– خلّ إيمانك في ربي كبير. ربما لم يعرف حميد كيف يعبر.
– لا يا يما. حميد أعرفه جيد. لا يوارب. عندما يقول شيئا، يذهب نحوه مباشرة. وينسحب بكبرياء عندما يرى أن الأمر يسير في غير الطريق الذي أراده.
تلتفت أمي نحو حنّا وهي تحاول أن تزرف بعض الشجاعة في نفسها: “لم أعد قادرة على تحمل الانتظار. حميد تأخر كثيرا ويعلم الله ماذا يحمل لنا. كلامه لم يرحني.” ثم تنكفئ على نفسها وتصمت كليا كأنها تنتظر شيئا من حنّا يمنحها بعض السكينة.
حنا فاطنة تنظر إليها بعينين متسائلتين مليئتين بالحيرة: ” ربي يجيب الخير يا ابنتي. أنا لا أثق في حميد كثيرا. الكثيرون يتهمونه بالتعامل مع عسكر فرنسا. ليس حركيا لأنه لم يؤذ أحدا، لكن وجوده في السجن كعامل فيه، يجعله غير مريح عند غالبية سكان القرية. مرات قلبي يقودني نحو الصور الأكثر سوادا: ما يكونش حاقد عليك لأنك حرمته من زوليخا؟”
– لا يا يما ما حرمته منها ما والو. زوليخا هنا، وتستطيع أن تقول الحقيقة. هي التي رفضته بكل حدة. القلوب مش لحمة ميتة.
– صحيح. لكنه قاطعنا أكثر من سنة بعد رفض زوليخا له.
– كان يحبها يا يما وكان حزينا عندما رفضته. كلش بالخاطر.
أمي تدافع عن حميد دائما بكل قواها وتجد له كل الأعذار كونه مجرد منظف للأمكنة وللسجن ولا يتكلم عن أي شيء. من عمله لبيته. مسكين. يعيل والدين مسنين، وعائلة أخيه الذي انتحر قبل سنة لا أحد يعرف لماذا، تاركا وراءه أربعة أطفال صغار. وجدوه معلقا في الإصطبل. قيل وقتها إنه لم يتحمل مرض سرطان الرئة الذي كان ينخر جسده، بسبب التدخين الكثير.
فجأة تتدخل زوليخا بيقين العارف: “حميد خواف بصح ما يكذبش. إذا قال يجي، سيأتي حتى ولو على قلبه.”. تسير حنّا فاطنة في نفس كلامها: شاب عاقل وذكي مليح، منبته طيب وعائلته محترمة. لا أعرف لماذا يعمل في الحبس؟ هل انقطعت مجالات العمل؟ يروح للفلاحة كما الآخرين؟” تنتفض أمي من مكانها غير موافقة على ما كانت تقوله حنّا فاطنة، أو على الأقل غير متفقة معها في كل شيء: “يا ميما لو كانت الدنيا هكذا لهانت. الخبزة بنت الكلب. واش من أرض عنده يا يما؟ هو من اللي يقولا عليهم: عاش ما كسب، مات ما خلّى.”
بقيت مائدة الأكل على حالها. لا واحدة منهن مدت يدها نحوها. الصمت. في حالة ترقب وإصغاء دائمين. فجأة يسمعن حركة. أنا نفسي سمعتها من تحت الفراش. يلتفتن جماعيا جهة الباب الخارجي. يتناهى إليهن صوت خفيف كأنه حفيف، أو شخص يختط طريقا له بين الأشجار والنباتات. ثم سمعن دقا مكتوما على الباب. ثم همسا: “افتحوا الباب، أنا حميد.”
تقوم زوليخا وأمي بسرعة من مكانيهما حتى لا يُترك حميد وقتا طويلا في الخارج. يمكن لأضواء البروجيكتور الآتية من أعالي الثكنة العسكرية، أن ـكشفه. تفتح زوليخا الباب، ثم تختفي من وراء الباب. يدخل حميد حانيا رأسه كعادته. ينزع الغطاء من على رأسه، واللثام.
يجلس بالقرب من حنا فاطنة. يقبل رأسها. بالكاد تتمتم. تخرج كلمات حنا بصعوبة من فمها: “خير يا حميد يا وليدي إن شاء الله. قلبنا مشدود من ساعة ما رجعتْ بنتي من حبس السواني. كأنك تخبئ شيئا خطيرا علينا؟”. يتململ في مكانه، تعلو وجهه كآبة لم تنسحب منذ أن دخل.
– واش من خير يا حنا فاطنة. الدنيا كحلة وواعرة. ربي يجيب الخير.
– واش كاين يا وليدي؟ هوّلتنا. قلْ.
– شوفي يا حنا، عمي حميمد أخذوه قبل منتصف الليل بقليل. وكل من يخرج في هذا الوقت….
– واش به هذا الوقت؟
– الحالة مش مليحة… أنا متأكد من أنهم لم يأخذوه لا إلى الغزوات ولا إلى تلمسان كما يدعون. ما شفت حتى سيارة ليلية أقلعت. شفت لما أخرجوهم مسلسلين وأخذوهم إلى مركز البحث، الذي قليلا ما يخرج منه المتهمون أحياء. قلبي وجعني. عمي حميميد السبع، وخالي بوزيان الرجل الطيب الذي يشبه الملائكة.
سمعت كل شيء. عندما اقتربت مني أغمضت عيني وكأني كنت نائما. حتى أني شخرت قليلا.
يتردد حميد قليلا ويتلعثم في كلامه. تندفع نحوه أمي من جديد بعد أن تخلصت من عزيز الذي كان قد نام. فوضعته على الفراش في الزاوية وأسندته بوسادتين كي لا يسقط.
– قل واش كاين يا حميد وليدي.
– بهدوء يا يمَّا، إذا سمعونا لا أنتم لا أنا. عمي بوحفص، وحتى الحركي منصور الجبلي، وسمعت أيضا الحركي بابو، يقولون نفس الكلام. لا أدري كيف خرجت من أفواههم؟ منصور كان حاضرا معهم عندما أخرجوهما هو وبوزيان من السجن في الليل وأخذاهما إلى المركز. هو العربي الوحيد الذي يسمحوا له بحضور البحث للترجمة. فهو يعرف الفرنسية والعربية وقبايلية بن سنوس.
– وين اداوهم يا وليدي؟ قالت أمي وحنّا في الوقت نفسه.
– على حساب عمي بوحفص ؟ أكد بللي… وعديني يا يمَّا أنك ما تبكيش. وإلا سيأتون ويأخذوني وربما يحرقوا الدار على رؤوسنا. الكازيرنا انتاع العسكر مش بعيدة من هنا. يراقبون الصغيرة والكبيرة.
– غير قول يا وليدي كلش باين في عينيك. قلبي كان حاسس من ذاك اليوم.
تعض أمي على فوطتها بقوة. يواصل حميد حديثه منكسا رأسه نحو الأرض.
– يقول منصور وحتى عمي بوحفص أنهما ماتا تحت التعذيب، ثم اقتادوا جثتيهما نحو الحواسي. ربي يرحمهما. هو وخالي يوزيان. كل من يخرج في هذاك الوقت ما يرجعشن لأنه يخرج من المركز ميتا أو في النزع الأخير. يعني أنهم قتلوهم. هذا ما أكده لي منصور الجبلي. عندهم حاسي يرمون فيه الأموات. حواسي (الآبار) أولاد صالح.
– وبالاك معلوماته مش صحيحة؟ هو ما يعرفش بلّي أخذوهم للغزوات وإلا لتلمسان.
– واش من تلمسان واش من غزوات يا يما؟ هذه عادتهم. عندما يخرجونهم بعد منتصف الليل، معناه أنهم لن يعودوا أبدا. هذه هي القاعدة. سبق وأن نفذوا الإعدام في غيرهم في مركز البحث ثم أجهزوا عليهم نهائيا بالقرب من الحواسي ثم رموهم هناك. حتى السجناء اللي كانوا مع عمي حميمد يعرفون هذه الحقيقة. عمي بوحفص والشرقي وموح الطويل، يقولون نفس الكلام. ربي يرحمهم ويوسع عليهم.
تضغط أمي أكثر على قطعة القماش بأسنانها. تسال بصوت محروق ووجه ذهبت كل الحياة منه. الشمعة اليتيمة كانت تعكس تلألؤ الجموع في عينيها.
– وين دفنوهم بالضبط.
– سألت منصور وما حبش يقول. أنا متأكد من أنه يعرف. هو أيضا يخاف على روحو. لكني أعرف أنه يعرف أكثر من الجميع. حكاية تلمسان ووهران وحتى العاصمة لا تصدقيها. منصور هو الصح. عمي بوحفص يقول حواسي أولاد صالح. وحتى منصور يقول نفس الكلام على من أنه يخاف أن يُسمع صوته.
يقوم حميد من مكانه. ينظر بعينيه بحثا عن شيء ما؟ ربما زوليخة، ولكنه لا يرى شيئا. زوليخة من وراء باب غرفتها المشرع كانت تسمع كل شيء وتبكي في صمت وتكتم صرختها بأسنانها.
– خليتكم على خير. ربي يعطيكم ويعطينا الصبر.
– أنا نفسي قلبي كان يقول لي أنهم أخذوهم بعيدا بعد أن قتلوهم ليخفوا الجريمة. وأحمد آخر مرة بقاني بخير. ووصاني على الأولاد كأنه كان يعرف بأن أيامه أصبحت قليلة
يغطي حميد رأسه ووجهه.
يخرج. يغلق الباب. تنهار أمي. تضغط على قطعة القماش لكيلا تصرخ. تدخل زوليخة ترتعش
– بابا مات. بابا مات يا حنا. اسمعت كل شي.
– هذا كلام حميد. ربي يجيب أخبار الخير غدوا.
– بابا مات يا حنا. حميد خواف، بصح ما يعرفش يكذب. نعرفه مليح. بابا مات؟
يبكي عزيز. تأخذه يمَّا زهراء تلقائيا وترضعه لكي يصمت.
– قدر عليك يا وليدي ما تشوف باباك، وتكبر يتيم.
– واش من حليب، إن شاء الله ما ينشف صدرك.
ينضح وجه زوليخة عرقا. ترتجف في مكانها ثم تسقط مغشيا عليها. تنزع يمَّا زهراء قطعة القماش وتصرخ بأعلى صوتها مختلطا بكاؤها بصراخ عزيز.
الليل حول القرية كلها إلى كتلة سواد لولا الأضواء الكاشفة التي كانت تمسح الأمكنة المختلفة كاشفة عن الأشجار والمقبرة، والظلال والأسلاك الشائكة المحيطة بالقرية.
الصراخ يمزق الليل.
لا شيء غير الصراخ.