فضاءات

عبدالرزاق الربيعي يكتب: مطر (السياب) يغرق أرض الرافدين في ذكرى وفاته

عبدالرزاق الربيعي يكتب: مطر (السياب) يغرق أرض الرافدين في ذكرى وفاته
عبدالرزاق الربيعي يكتب: مطر (السياب) يغرق أرض الرافدين في ذكرى وفاته عبدالرزاق الربيعي يكتب: مطر (السياب) يغرق أرض الرافدين في ذكرى وفاته

أثير- عبدالرزّاق الربيعي

عندما ودّعنا بغداد قبل أيام قليلة كانت سماؤها صافية، رغم أن الأنواء الجوية تشير إلى أن ثمة غيوم ثقيلة ستكون محمّلة بأمطار غزيرة، استبشر الناس بها خيرا، فضفتا دجلة اللتان كانتا تفيضان في سنوات بعيدة، جفّت فيهما المياه التي سحبت معاطفها شيئا، فشيئا وانحسرت، ليظهر وجه الطين عاريا، في بعض المناطق، إلّا من خيط ماء، يجري بهدوء واستحياء، لكننا بعد وصولنا (مسقط) بدأت أخبار المطر العراقي تصل تباعا، وارتفعت مناسيبها حتى أن بعض المدن امتلأت بالبرك المائية.
تذكّرت (أنشودة المطر) قصيدة الشاعر بدر شاكر السيّاب الخالدة التي كنا نحفظها عن ظهر قلب، فقد كانت مقرّرة ضمن المنهج المدرسي لمادة اللغة العربية في الصف التاسع:
وكم ذرفنا ليلة الرحيل، من دموعْ
ثمّ اعتللنا ـ خوفَ أن نُلامَ ـ بالمطرْ…
مطرْ…
مطرْ…
ومنذ أنْ كنّا صغاراً، كانت السماءْ
تغيمُ في الشتاءْ
ويهطل المطرْ”





وها هي سماء العراق تغيم وتمطر وتصاحب أمطارها، في بعض الأحيان، عواصف رعدية، في بلد اعتاد هبوب العواصف السياسية التي لم ينجُ منها السيّاب، فضاعفت من معاناته:
وكلَّ عام ـ حين يعشب الثرى ـ نجوعْ
ما مرَّ عامٌ والعِراق ليس فيه جوعْ


ورغم أن دارسي شعر السياب يؤكدون أن القصيدة التي نشرت لأول مرة في مجلة ( الآداب) اللبنانية لصاحبها د.سهيل ادريس في عددها الصادر في يونيو ١٩٥٤م، لكنه كتبها في الكويت عام ١٩٥٣، ولسبب ما، كان متردّدا في نشرها، ربّما لأنه كان يرى أنها تتحمّل المزيد، من الأوجاع، لكنّه حسم الأمر، وبعثها للمجلة لتخرج للنور، بعد ثلاثة شهور، ثم نشرت في ديوان حمل اسمها ( أنشودة المطر) صدر في بيروت عام ١٩٦٠ لتصبح علامة بارزة في الشعرية العربية.

وأنا أستحضر ” أنشودة المطر” تذكّرت أن وفاة السيّاب كانت في 24/12/1964 أي في مثل هذا اليوم، وتذكرت أن تساقط المطر الغزير حال دون وصول أكبر عدد من مشيعي جنازته، وكان سقوط المطر من النادر في مثل هذا الوقت، فتساءل الدارسون مستغربين سقوط المطر بالغزارة التي وصفت، يوم وصول جنازة شاعر المطر إلى مدينته البصرة محمولة على ظهر حافلة قادمة من الكويت بصحبة الشاعر الكويتي علي السبتي !:
فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاءْ
ونشوةٌ وحشيّةٌ تعانق السماءْ
كنشوة الطفل إذا خاف من القمرْ!
كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ
وقطرة فقطرةً تذوب في المطرْ…
وكركر الأطفالُ في عرائش المكرومْ،
ودغدغت صمت العصافير على الشجرْ
لقد توقّف الدارسون كثيرا عند هذه القصيدة التي تعدّ من فرائد الشعر العربي الحديث، فالشاعر جعل المطر معادلا موضوعيا لذاته المثقلة بالأوجاع، والآلام، من طفولة عانى فيها من اليتم بسنّ مبكّرة:
تثاءب المساء، والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثِقالْ.
كأنّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينامْ:
بأنّ أمّه ـ التي أفاق منذ عامْ
فلم يجدها، ثمّ حين لجّ في السؤالْ
قالوا له: (بعد غدٍ تعودْ .. )
لابدّ أن تعودْ
وإنْ تهامس الرفاق أنها هناكْ
في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ
تسفّ من ترابها وتشرب المطرْ؛
تلك المعاناة اتّحدت مع أوجاع العراق
لكن تبقى الحبيبة حاضرة لتوازن طرفي المعادلة وتمتصّ ألم الشاعر:
ومقلتاكِ بي تطيفان مع المطرْ
وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ
سواحلَ العراق بالنجوم والمحارْ،
كأنها تهمّ بالشروقْ
فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ














فهل تذكّرت سماء العراق مناسبة رحيل السيّاب، فاحتفلت على طريقتها الخاصة؟
وتبقى الإجابة مفتوحة، فيما يبقى السيّاب حاضرا بيننا نحتفى بذكراه، ليس فقط عندما تمر ذكرى وفاته، بل كلما قرأنا له نصا، خصوصا عندما ينزل المطر .


Your Page Title