أثير – د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
رحل عام 2022 تاركا للبشرية بفعل ما كسبته أيادي الكبار منها، حملا ثقيلا وتركة كبيرة من الإرهاصات والتحديات الفكرية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية، لتنتقل إرهاصاتها إلى حياة الطفولة والنشء كونهم أكثر الفئات التي باتت تتلقى نتائج هذه الصدمات وانعكاساتها على واقعهم، سواء في ظل ما يتعرض له النشء والطفولة من أحداث يومية كجزء مما يعيشه العالم في غوغائياته السياسية والإعلامية وحالة الاحتقان والازدواجية في إدارة ملفات الأمن والتنمية والسلام والبيئة والطاقة والتعليم والأمراض، وما ارتبط بها من مآسي الفقر والجوع والإساءة وضحايا الحروب والكوارث والنزاعات، أو التحديات الفكرية المغذية بالإلحاد والكراهية والتنمر الفكري والأيديولوجيات الإعلامية، وتشويه الحريات وحقوق الإنسان وإدخالها في منزلقات المثلية والنسوية والشذوذ الجنسي، ناهيك عن جرائم القتل والانتحار التي باتت تمارس أمام أعين النشء والطفولة، وانتشار ظاهرة الطلاق والنزاعات والاختلافات الأسرية والعائلية التي وضعت الطفولة ضحية الفرقة والتشتت، ثم حجم الأمراض التي باتت تلقي بثقلها على حياة المجتمعات في ظل عودة انتشار مرض الأيدز وأمراض الطفولة المزمنة كفقر الدم وأمراض القلب والرئة، وغيرها من الأمراض التي بات نصيب الطفولة منها حاضرا.
هذا الأمر يأتي في ظل ما تشير إليه الإحصائيات من ارتفاع حوادث الأطفال في سلطنة عمان رغم الجهود الحكومية المبذولة في هذا المجال، حيث بلغ عدد البلاغات لحالات الإساءة للطفل الواردة لخط حماية الطفل على الرقم (1100) خلال عام 2019م،707 بلاغات، منها 383 ذكرا و324 أنثى، وعند توزيع عدد هؤلاء الأطفال حسب “نوع الإساءة”، يتضح أن “الإهمال” يأتي في المرتبة الأولى بعدد 316 طفلاً (173 ذكرا و143 أنثى)، تليه “الإساءة الجسدية” بعدد 99 طفلاً (69 ذكرا، و30 أنثى)، تعقبها “الإساءة الجنسية” بنصيب 42 طفلاً (22 ذكرا و20 أنثى)، وآخرها “الإساءة النفسية” بعدد 31 طفلاً (15 ذكرا و16 أنثى)، حيث بات اتساع هذه الحوادث وغيرها يلقي بظلاله على دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية والمؤسسات التشريعية والقانونية والضبطية والصحية والتعليمية في العمل على حماية الطفولة، وتبني سياسات وأطر أكثر ابتكارية ومهنية في الحد من هذه الحوادث.
ولأن كانت الطفولة قد عانت في عام 2022 من الانتكاسات والمطبات في ظل حالة صراع الكبار التي يعيشها العالم ويسقط ضحيتها الأطفال ليزيد عدد المشردين والذين يعيشوا حياة صعبة محاطة بالفقر الجوع والعوز والأمية حول العالم، فإن في تغير الأزمان وتعاقب الأيام فرصة للبشرية في استحضار إنسانيتها ووقف حالة التآمر على كونيتها، والتقاط الأنفاس لإعادة تقييم مسارها لبدء العام الميلادي الجديد 2023، بحلية جديدة ورؤية متجددة، تستفيد خلالها من هذه النكبات والسقطات التي تتعرض لها لحياة ملؤها الحب والتعاون والفرح والسلام، الأمر الذي يحتم على منظوماتها المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والقضائية والتشريعية والإعلامية دورا أعمق في رسم ملامح المستقبل المحمل برسالة الأمل والسلام.
إن الحديث عن دور التعليم في صناعة الإيجابية في حياة الأجيال القادمة وهي تدخل مرحلة عمرية جديدة؛ يأتي من منطلق كونها أول مؤسسات التنشئة التي تتلقى الطفولة فيها فرص التعليم والتهذيب والتربية والرعاية الفكرية والثقافية والنفسية، وهي ميزة تنافسية تتوفر في التعليم أكثر من غيره من مؤسسات التنشئة الأخرى، وتبقى عملية التأثير فيها مردها إلى مستوى الجاهزية التعليمية والمرونة الحاصلة في هذا الدور، في ظل كفاءة مناهج وأدوات وأساليب التربية والتقويم وتهذيب السلوك والتوجيه والإرشاد والتصحيح وإيجاد روح التغيير بحيث يفتح للطفولة صفحة جديدة تتعاظم فيها أبواب الأمل والتفاؤل والأمن والسلام، يعيد فيها ترتيب الأولويات، ومراجعة المسارات، وضبط التوجهات، وتصحيح المفاهيم المغلوطة التي باتت تتلقاها الطفولة من الأسرة أو الإعلام أو الأصدقاء أو البيئة الخارجية، ويضع أمام الطفولة صورة الواقع المتناغم مع الفطرة السوية والكمال الإنساني، في إطار تحويل الأفكار السلبية التي ترسخت لدى الطفولة، والتراكمات التي تكونت لديهم حول واقعهم، والتشاؤمية التي غطت على مساحات الأمل والفرح، والصورة السلبية والقناعات والأيديولوجيات التي أوجدها الكبار في فقه الطفولة لتتولد عنها كومة الكراهية والأحقاد والتنمر والأفكار التي باتت ترهق كاهل الطفولة وتكبر هذه الهواجس معهم حول المستقبل، واضعة التراكمات الاقتصادية وأزمات ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وزيادة عدد الباحثين عن عمل والمسرحين من أعمالهم وغيرها مبرر لتشاؤمية المستقبل.
وعليه، كانت هذه المعطيات والفرص كفيلة بأن تضع التعليم أمام مسؤولية أخلاقية وإنسانية في إثبات بصمة حضور له في فقه الطفولة وحياتها، والحد من ارتفاع سقف المقلقات والمعكرات التي باتت تستهدف أمن الطفولة وأمانها، وأن يتخذ من السياسات والخطط والبرامج والموجهات ما يعيد إنتاج واقع الطفولة بما يمنحه لهم من نموذج الحياة في ظلال السلام والحب والأمن والتنمية في مواجهة حالة التغريب في القيم والأخلاق والمبادئ، وتبني مبادرات جادة معمقة لتعزيز فرص الطفولة في الحياة، ورسم ملامح مضيئة لها في عالم سريع التغير (إبداعاتها، مشاعرها، أفكارها، تفكيرها، سلوكها)، وتأصيل الهوية الحضارية للطفولة، وروح التواصل الطفولي مع الطبيعة والحياة والإنسانية في أرقى ممارساتها، ومنح الطفولة فرصًا أكبر للإبداع من خلال فتح منافذ التفكير الابتكاري لها، وتعميق الشعور الإنساني فيها في ظل ما تبرزه من مشاهد الحياة الراقية في بيئة تعليمية تربوية تحتوي الطفولة وتوفر لها فرص الإبداع والابتكار والتفكير وحس التعبير، بما تطرحه مناهج التعليم وبرامجه من قضايا اجتماعية تلامس الواقع، وترتبط بهوية المجتمع وتعكس مساحة من الذوق والشعور بقيمة الآخر وروح الإيجابية التي تطبع على سلوك الطفولة، وتنشئتها وتدريبها على تجاوز السلبيات والتحديات التي باتت تطبع حياة الطفولة في ظل سلطوية الرأي التي يفرضها الكبار لتعيش الطفولة تفاصيلها المؤلمة ومحطاتها القاسية.
أخيرا؛ كيف يمكن لمؤسسات التعليم في ظل تراكمية التحديات والصراعات التي بات يصنعها عالم الكبار، والمتغيرات التي أسقطت بثقلها على كاهل الطفولة ضحية لهذا الصراع الحاصل، أن توفر مظلة حماية للطفولة؟، فمع التأكيد على أهمية تفعيل القوانين والمعاهدات والبروتوكولات الدولية المعنية بحقوق الطفولة في الجوانب الفكرية والنفسية والجسدية والصحية والعاطفية، فإنها بحاجة لأن تجد البيئة الإنسانية والأخلاقية الواعدة لنمو أفكارها وتنمية مواهبها واحتضان اهتماماتها، بما يعنيه ذلك من أهمية التوازن في البناء الفكري والوجداني والقيمي للطفولة في طبيعة المفاهيم والتسلسل في الأفكار المطروحة على الطفولة في بيئة التعليم والخطاب الإعلامي والتربوي والأسري بما يضمن قدرة الطفولة على استيعابها، ووجدت القدوات الإنسانية التي تحفظ لها موقعها المتقدم، ثم دور الواقع الوطني العماني في توفير البيئات الإعلامية والترويحية والتسويقية والجمالية والتعليمية والتثقيفية التي تستطيع الطفولة من خلالها أن تمارس أدوارها بعمق، وتتميز في إنتاجيتها بمهنية، وتبدع في ممارساتها بفاعلية، في عالم متغير تتنافس فيه الكثير من الفضائيات والمنصات الاجتماعية وبرامج التك توك واليوتيوب وغيرها، والتي باتت في ظل فراغ الضوابط والتعدي على الهوية همجية استغلال الكبار لها تئد إنسانية الطفولة، إن لم تجد من يأخذ بيدها ويوجهها ويفتح لها أبواب النقاء والصفاء.