أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج
كثر الجدل حول الرواية العربية من ناحية المكون التاريخي الذي لعب دورا حاسما في نشوئها. الكثير من النقاد يعتبرونها ثمرة تطور طبيعي جاء عن طريق التلاقح مع الثقافات العالمية الأخرى، المختلفة والمؤتلفة في الآن نفسه. من هذا اللقاء “الحضاري” الذي لم يكن دائما سهلا، تطورت الرواية في دائرة النسق الذي فرض عليها بقوة منذ اللحظة الأولى، فعاشت وتعيش جزئيا اغترابا لم يساعدها على النمو الطبيعي. لكن هناك أيضا من يعتبر أن الرواية فضاء عالميا لم يعد مقتصرا على الغرب، فقد شاركت فيه الجهود الإبداعية العالمية إلى أن استقام على الشكل الذي نراه اليوم. لا أحد ينكر الجهد الأوروبي من سيرفانتيس إلى بالزاك وفلوبير وناتالي ساروت، وجيمس جويس، وغيرهم ولا أحد ينكر أيضا الجهد الأمريكي الشمالي والجنوبي حتى تجربة أمريكا اللاتينية، ويجب ألا يطمس الجهد العربي في هذا السياق، الذي تجلى فنيا في ألف ليلة وليلة التي لا يمكن لنصوص عالمية تأسيسية كبيرة أن تتنصل عن هذا النص كليا، وحي بن يقظان، ورسالة الغفران إذ تم من خلالها فتح مجال التخييل إلى أقصاه كلحظة جمالية ووجودية. وهي أطروحة تستقيم فكريا وفنيا إذ لها ما يبررها نصيا. قراءة جديدة للميراث السردي العربي تقودنا حتما نحو القبول بهذه الفرضية التي تستحق أن تعمق أكثر بالسجال والبحث المعمق.
الرواية ليست جنسا مغلقا. بل هي من أكثر الأجناس انفتاحا وحيوية. مما أعطاها الريادة وقوة مقاومة فناء الأجناس. منذ أن خرجت من رحم الملحمة بحسب الناقد جورج لوكاتش الذي خص السرد الروائي تاريخيا مساحة واسعة من أبحاثه الأدبية والفكرية، والرواية تفتح أذرعها لكل الرياح والثقافات واللغات. حياتها في هذا الانفتاح فهو ما يمنحها النسغ الذي يؤهلها لتخطي كل المعوقات الثقافة والحضارية من أجل الاستمرار والتجدد. على العكس من الشعر الذي ظل في عمومه مغلقا على أشكاله، ارستقراطيا في مكوناته الداخلية، أي خاص بالنخب العالمة. يفتقد إلى الشعبية التي أصبحت خاصية روائية. لغته المجازية الصعبة وغير المتاحة للمستهلك الثقافي العادي، واستعاراته المتنوعة والمركبة التي تحتاج إلى قدرات تأويلية كبيرة، لا تؤهله للوقوف في وجه عواصف الاشكال الأدبية المتحولة. كلما ظننّا أن الرواية وصلت إلى سقفها ومنتهاها البنيوي، فاجأتنا بنقلة نوعية جديدة مددت من عمرها ومنحتها تنوعا جديدا. وكأنها طائر فينيق، في اللحظة التي تصبح فيها رمادا، أو يبدو لنا الأمر كذلك، نهضت من رمادها بقوة غير مسبوقة. مقارنة بسيطة بالمحاولات الروائية الأولى عالميا، وما وصلت إليها اليوم يجعلنا ندرك بسهولة المسافة التي قطعها الجنس الروائي ليصبح اليوم طاغيا ومستوليا على كل المساحات الأدبية، في الإعلام، في الشهرة، في الجوائز، في التجدد والاستمرارية. لا جنس يوازيه أبدا في الزمن الذي نعيشه. مرجع موت الأجناس هو عدم قابليتها على التأقلم مع المستجدات الثقافية والحضارية.
الرواية العربية لا تخرج أبدا عن هذه السياقات الثقافية والحضارية. على الرغم من الصعوبات التاريخية والثقافية والسياسية، فقد امتلكت الرواية العربية ذاكرة حية تستحق الاهتمام النقدي والبحث الجاد. استطاعت، ليس فقط أن تستدرج الجنس الروائي الغربي الذي ليس غربيا كليا، في مكوناته المعروفة، ولكن أيضاً أن تطوره وتوطّنه بحيث أصبح يستوعب المجتمع، والتاريخ العربيين، بدون تنافر كبير. تملك القابليات السردية والحكائية التي تؤهله لفعل التوطين. أصبح فيها بعد أن كانت فيه، حتى ولو فرض ذلك كله نقاشاً جديداً. لم تعد الرواية جنسا غريبا بشكل مطلق، وهذا مثار جدال كبير يحتاج إلى تأمل حقيقي، كما ذكرت سابقا، وأصبح من الصعب الحديث فقط عن جنس وافد وكأنه نازل من السماء السابعة بشكل فجائي، بدون إدراج التحولات البنيوية العميقة التي غيرت، جزئياً أو كلياً، عمقه ومنحته إمكانية التأقلم والتطور. فمنظوماته التكوينية أدرجت في بنياتها (في الكثير من نماذجها) الميراث القصصي العربي الشبيه بالميراث العالمي في عمومه، على الرغم من عمليات البتر الذاتي التي تعرض تاريخياً، وحدت من وجوده وتأثيره. فقد ظل رهين الفترة الكولونيالية التي لا تعترف مطلقا بالجهد العربي ولا بعبقرتيه الفنية التي ارتقت بنصوصه عاليا (ألف ليلة وليلة) وحتى فترة ما بعد الكولونيالية التي ورثت في جوهر تفكيرها احتقار الذات والسخرية منها وعدم تقبلها وكأنها وصمة عار. مرد ذلك قوة الخطاب الكولونيالي الذي هيمن على كل الحقول المعرفية بوصفه المرجع المطلق للمعرفة. فحمل بعض سماته السلبية على الرغم من رفضه الثقافي والنظري لها. الاختلالات البنيوية في هذا الموضوع تحديداً ستظهر لاحقاً بشكل واضح، عندما حاول الجنس الروائي العربي أن يجد له تاريخاً يتكّئ عليه. على الرغم من أن الآخر الذي كان بعيداً ومفصولاً، وربما عدواً أيضاً، أصبح في فترة ما بعد الكولونيالية، جزئياً في الأنا، ومحركاً إيجابياً/سلبيا لها، ومتأثراً بها، من خلال بعض ما أنجز من روايات وفنون تمت تحت هذا السقف، وهو ما أطلق عليه مصطلح الخلاسية أو التهجين Hybridité.
مصدر ذلك، هو أن كوكبة من مثقفين من بلدان إفريقيا وجزر الكاريبي، أو تلك التي تعرضت لاستعمارات زمنية طويلة، الذين قبلوا بفكرة التهجين، لا يشعرون مطلقاً بضرورة نقد التاريخ الثقافي الاستعماري، ولا يرفضون المسألة التهجينية ويعتبرونها محصلة تاريخية إيجابية يجب الاهتمام بها، والاحتفاء بها كغنى وليس كمعطل ثقافي في التهجين الأدبي. لأن الآخر في لحظة من لحظات التاريخ، وعلى الرغم من غلبته العسكرية والثقافية، لم يجد أي ضرر من التأثر بالثقافة العربية أو الشرق العظيم الذي شيده لاحقا قطعة قطعة، وفق أهوائه وحاجاته الثقافية، فأنتج نصوصاً خلاسية غرفت من معين الثقافات العالمية، ومنها العربية.
لنا في بعض النصوص السردية العربية القديمة نماذج حية في هذا الميراث الذي فرضت نفسها على الآخر. يمكننا أن نشير على سبيل التمثيل لا الحصر إلى “دون كيخوتي” لميغيل سرفانتس الذي لم يخف تأثره بالثقافة العربية، وفي البحث عن الزمن الضائع “لمارسيل پروست” الذي صرح في مواقع كثيرة على سلطان نص “ألف ليلة وليلة”، و”الليلة الثانية بعد الألف” لتيوفيل غوتييه، و”مئة عام من العزلة” لغارسيا ماركيز، وجورجي أمادو وغيرهم من الذين نقلوا الذاكرة العربية والإسلامية التي بترناها نحن من ذاكرتنا السردية بفعل قسري مسبق وديني، بحجج ضعيفة تدل عن لا تاريخية بعض التصورات النقدية التي كانت وراء هذا البتر الذي لا يمكن قبوله لأنه يحرم العرب من حقهم في تجليات العبقرية السردية التي خدمت الأشكال والثقافة الإنسانية. يحتاج النقد العربي إلى الخوض في غمار هذه التجربة القاسية التي سيكون من نتائجها الخروج النهائي من نموذجية الفكر الكولونيالي التي فرضت نفسها لدرجة أن أصبحت الرؤية مضببة داخلها. الحاجة إلى استعادة الوجدان الثقافي العربي الذي تأسس عليه المخيال العربي الإنساني أمر ليس مهما فقط ولكن حيويا أيضا. التخلص من النموذجية الكولونيالية لا يعني مطلقا العيش في جزيرة وسد كل قنوات التواصل، ولكن استعادة حرية التفكير داخل/ وفي نسق تمت سرقة كل إمكاناته وقدراته الذاتية العميقة، وتعطيله كليا وكأنه لم يمنح البشرية أجمل وأبهى النصوص ومخيالا راقيا وعظيما وحرا على وجه التجديد. أمة بلا تخييل، أمة مجردة من نسغ الحياة.