أثير – الروائي الأردني جلال برجس
في أحد نهارات عام 1994 قرأت في الصحيفة إعلانًا عن جائزة تخصصها رابطة الكتاب الأردنيين لغير الأعضاء. كنت آنذاك عسكريًّا غير مسموح لي المشاركة في أي نشاط ثقافي. أصابني ذلك الإعلان بما يصاب به من يجلس على كرسي من جمر؛ إذ أدخلني في صراع بين ما هو محظور، وبين ما هو مرغوب ومُلِح. أخبرت صديقي الشاعر عليّ شنينات بما أفكر به. ترددنا في البداية، لكننا قررنا المشاركة. أتذكر ذلك النهار الذي ذهبنا فيه إلى رابطة الكتاب الأردنيين، وكان يترأسها مؤنس الرزاز. يتلبسنا الخوف إلى جانب اللذة في اقتحام الباب الأول نحو الكتابة. دخلنا بخطوات مرتبكة، خجولة، خائفة. شاركت بقصة، وشارك عليّ بقصيدة، ثم غادرنا تقودنا نشوة لم نشعر بها من قبل، وولجنا باب الانتظار لنتائج الجائزة. بعد أشهر أعلن في الصحف عن يوم إعلان نتائجها؛ فذهبنا يدفعنا أمل أكبر من الوجع. هناك وفي رابطة الكتاب الأردنيين كان محض استلامي لشهادة تقدير مذيلة بتوقيع من مؤنس الرزاز قد أثار في نفسي غبطة عالية جعلتني في اليوم التالي أضع لهذه الشهادة إطارًا، وأعهد بها لصدر الجدار في بيتنا لأبقى أيامًا أنظر فيها كأني أفتش عن إجابة ما، إلى أن قررت الذهاب مجددًا إلى الرابطة وأقابل الرزاز، أحمل معي عددًا من القصص الجديدة المكتوبة بخط يدي.
كنت آنذاك ما أزال أحيط كل كاتب قرأت له بهالة من القداسة الاستثنائية. قرعت باب مكتب الرزاز وأتاني صوته المتحشرج. كدت أغيّر رأيي، وأعود بسبب مهابة تلبستني لحظتها. لكن شيئًا سريًا دفعني للدخول بخجل واضح. نهض من وراء طاولته، وأنا أمشي نحوه بشيء من التوتر، وصافحني، وسيجارته في يده اليسرى لا تنطفئ. بقيت واقفًا وقد عاد إلى كرسييه، وأزاح جانبًا أوراقًا يعمل عليها، ثم حدق بي باستغراب طالبًا مني الجلوس؛ فجلست على طرف الكرسي، ورحت أحدثه على استحياء وتلعثم واضحين: (أعرف أن وقتك ثمين، لهذا لن أطيل عليك). أجابني بصوت خفيض وهو يشعل سيجارة ثانية: (لا عليك).
تلك أول مرة أكتشف فيها أن مؤنس الرزاز مقلّ في الكلام قلت وهو ينظر إليَّ بعينين انتفخ جفناهما: (كتبت عددًا من القصص، فأتيت إليك بعد تحديق طويل في توقيعك على شهادة تقدير حصلت عليها من الرابطة، لتخبرني هل أصلح للكتابة أم لا؟). مدَّ يده يريد الأوراق وأنا أمسكُ بها بيدي الاثنتين مثل من يداري على دليل نجاته من ورطة ما. أخذ يقرأ الأوراق تباعًا إلى أن وصل إلى الورقة الرابعة فحدق بي لقليل من الوقت، ثم عاد يكمل القراءة، بينما بقي رماد سيجارته يتكون إلى أن سقط على الطاولة مع انتهائه من قراءة الورقة الأخيرة.
أشعل سيجارة جديدة، وحرك كرسيه نحوي بحيث صار أقرب، وقال لي بصوت خفيض كمن يخبر أحدًا بسر: (هل قرأها أحدٌ غيري). قلت له بما يشبه أسى أحاول تجاوزه: (نعم، قرأها زملاء لي في العمل، وأخبروني أن هذا محض هراء). اقترب أكثر، ثم قال لي بنفس وتيرة الصوت: (اشتغل على ما تكتب، ولا تأبه بالعصي التي توضع في الدواليب. الكتابة مغامرة، والمغامرة بحاجة إلى جرأة كبيرة، فكن جريئًا وكن حرًا) قلت كمن رأى ضوءًا في نهاية النفق: (هل أكمل إذن؟). أطفأ سيجارته في المنفضة بهدوء كأنه يحرص على ألا يؤلمها، ثم أكمل حديثًا اعتقدت أنه انتهى: (كم كتابًا قرأت؟) قلت: (ربما ألف كتاب)، قال وعلى وجهه طيف ضئيل لابتسامة خفية: (اقرأ كثيرًا، لتستطيع كتابة ما وجدتُه في هذه الصفحات). كنت أريد أن أعرف ما وجده، لكن دافعًا سريًا يشبه الحرص في عدم الحديث عن فكرة رواية لم تكتب بعد جعلني أتراجع عن ذلك.
غادرت الرابطة مزهوًّا، أمشي عبر اللويبدة إلى أن وصلت وسط البلد. لم أقل لمؤنس الرزاز أني لم أقرأ له سوى مقالاته، ولم يسألنِ هل قرأت له أم لا؟ لم يحضّني على قراءة رواياته، ولم يحدثني عن نفسه؛ بل بدا لي مستمعًا بقدر ما كان متحدثًا هادئًا. اقتنيت كل ما صدر للرزاز آنذاك، وفي حافلة أقلتني إلى مادبا وهي تسير بطيئة بدأت بقراءة (أحياء في البحر الميت). ما أن وصلت حتى انتهيت من قراءتها، ثم انعزلت لأجل قراءتها مرة ثانية، لا لأنها كما أشار مؤنس في بدايتها رواية (ليست للقارئ الأرق، بل إنها الأرق بعينه) إنما أيضًا لأنني وجدت انعكاسًا لتشظي داخلي أحسست به ماثلًا في رواية رثت زمننا العربي. ومنذ ذلك الحين واظبت على قراءة رواياته، وما صدر له بعد ذلك التاريخ من سيرة، ومقالات، إلى أن عرفت مؤنس الرزاز مليًا مما يكتب، إنسانًا آذته انكسارات الإنسانية، وانكسارات الإنسان العربي من غير أن يخفض من صوته، أو يبيع قلمه، أو يهادن لأجل امتيازات من نوع غرق الكثير في مستنقعاتها. عرفته روائيًا يذهب إلى بياض الصفحة وهو يعي كم عليه أن يكون مغامرًا وجريئًا، ومجددًا، وحداثويًا.
في 8/2/2002، كنت أخطط لأذهب أثناء إجازتي إلى مكتب مؤنس الرزاز في وزارة الثقافة لأطلعه على ما لدي؛ إذ انتهيت من كتابة عدد من القصص، ومرت ثماني سنوات على لقائي الأول به. يومها تأخرت الصحيفة عن الوصول لموقع عملي؛ وصلتني مساء مع أحد الزملاء؛ فوجدت خبر وفاة مؤنس الرزاز يتصدر العناوين. كنت مستلقيًا على سريري والصحيفة بين يدي. نهضت، وأخذت ألتف حول نفسي كمن وجد نفسه محاطًا بعدد من الدبابير. غادرت الغرفة، ومشيت باتجاه ظلمة صحراوية تحت سماء تفجرت فيها نجوم، وشهب، ونيازك تهطل بغزارة. ما أتذكره، أني افترشت الرمل، ووضعت رأسي على ركبتيَّ، وانتحبت، ثم تمددت على الرمل بعد أن أطلقت صرخة كان عليّ أن أفعلها، وبقيت أراقب النجوم والشهب والنيازك كيف ترثي رحيل إنسان بحجم مؤنس الرزاز.