أثير – مكتب أثير في تونس
قراءة: محمد الهادي الجزيري
بماذا أبدأ؟؟؟
رجل فرد يقوم بأعمال جماعة، ولا يكلّ أو يملّ إلا فترات قصيرة ما بين إنجاز وآخر، لا أقول هذا جلبا للعين فعفاه الله من كلّ حسد، إنّما تثمينا لما يقوم به منذ شبابه الأوّل من عمل وكتابة وجرد وتوثيق وتصوير.. فكأنّه يحيا لفعل هذه الأفعال المقتنصة للحياة، هذا هو الأستاذ عبدالرزاق الربيعي وهذا إصداره الشعريّ الجديد “ننام ويحرسنا ليلُ أمس” الذي يدعوني لخوض غماره، وكشف أغصان دغله المتداخلة ما بين قصيدة موزونة وقصيدة نثر.. في بحث دائم عن شعرية لا يتقنها إلا شاعر…
“تشريننا الأوّل راح
يا صديقتي
وجاءنا الثاني
والريحُ
عادت مرّة أخرى
لكي
تعصف في
صحراء وجداني
والبردُ
للدروب
من مدائن الوحشة
جاء
يهزّ لي
جذوع أحزاني”
يعود بنا عبد الرزاق الربيعي إلى أجواء الطفولة، ويركب ويصعدنا معه في “زورق من ورق”، ويمضي يجذف بنا في النهر/الزمن طالبا منه التوقّف لكي يظلّ الصغار صغارا وكي يراقب الشاعر على مهل الجميلات كيف ينقعن بشهد الحياة أحلامهنّ، ويرى ما يريد يرى كلّ شيء، وخاصة مشاهد الطفولة الخالدة:
“عند باب الطفولة
تحت ظلال الغصون النحيلة
شرق بيوت القصبْ
فالضياء
على صفحات المياه ذهبْ
واخضرار السهوب عجبْ
والرياح
بلا خجل
قبّلتْ
زبدا طافيا
فوق أعناق موجاتك الفاتنات
فضجّ الصخبْ”
ثمّة فقرة فيها الكثير من الشعرية وإن كانت تبدو عادية، ولكن القارئ الذي فيّ يرى فيها الرهافة والكياسة والعمق، إذ كيف نقول للآخر: نحبّك دون أن نخدش حيائه، وكيف نعبّر عن عاطفتنا الجياشة بأقلّ ما يمكن من مفردات، خاصة والشاعر يخوض في هذه القصيدة تجربة شعرية النثر وما أصعب النثر “لو كانوا يعلمون”، ولكنّ الأستاذ عبدالرزاق الربيعي يتقن الكتابة في الضفتين، وها هو يبوح بالحبّ دون أن يقع في المحظور:
“..وحين ينبتُ العشب
سأجعل خرافي
ترعى إلى جانب خرافك
وأغضّ طرفي
حين أرى طيوري
تغازل طيورك”
وقبل أن أنهي هذه الإطلالة على مجموعة، “ننام ويحرسنا ليلُ أمس”، أوافيكم بنزر قليل من الجمل الشعرية المتفرقة، ورأيت من واجبي أن يقرأها القرّاء متعة وإفادة:
“وكنت مع الليل
والناس
والكأس
وحدكْ ”
” سلاما
مضوا
خائبين
إلى حيث يمشي اليتامى
وسال رماد النجيمات
من جسد النهر
غطّى اخضرارُك لحدَكْ
وكنّا جميعا
وما كنت وحدَكْ ”
” الليل جرح
النهار ضماد ”
” الليل شاعر
يسرد حكايات
ألف نهار ونهار ”
” البقرة التي تمضغ
طعامها نهارا
بشهيّة
هل تعلم أنّها
ستكون لقمة
بفم الليل”
ونختم بجزء من كلمة د.حاتم الصكر على الغلاف الأخير: “شاعر يعي الزمن ويتابع ظلاله الثقيلة على الأمكنة والناس، شعرية فريدة تطوّع النثر في قصيدة، والإيقاع في أخرى، لتلتمَّ حول بصيرة الرائي”.