أثير – مكتب أثير في تونس
حاورها: محمد الهادي الجزيري
الصدفة وحدها قادتني إليها أو قادتها إليّ، حين نشرت مقالتي عن الكتاب الجماعي “بنت البليد” في صفحتي بالفيسبوك، لفتَ انتباهي أحد التعليقات لإحدى المربيات فقد فهمت من كلامها أنّها كانت تقيم بعُمان خلال التسعينات من القرن الماضي، ففرحت كثيرا لأنّي اصطدت صيدا ثمينا، ولم أفوّت الفرصة فاقترحت عليها حوارا لـ “أثير” وكان الردّ إيجابيا وأوغلنا معا في سنوات التسعينات وأجواء التعليم كيف كانت، ورأيت لست وحدي من “ضحايا” القهوة العُمانية، إذ أنا مثلها صرت أشرب القهوة من غير سكر.
– لو نعود بك إلى تسعينات القرن الماضي، وإقامتك في عُمان للتدريس، كيف تمّ الأمر وفي أيّ إطار قدمتِ؟
سافرت للعمل بسلطنة عُمان سنة 1992 في إطار ما يُسمّى بنظام “الإعارة” الذي تسمح بمقتضاه وزارة التربية والتعليم لموظّفيها من المدرّسين للالتحاق بالسلطنة للعمل هناك بعقد محدود بفترة زمنيّة وذلك ضمن بعثة تشرف عليها وكالة التعاون الفنّيّ التي تنظّم اللقاءات بين المدرّسين ولجان عُمانيّة تحضر من أجل هذه المهّمة، وقد عُيّنتُ للتدريس في ثانويّة رُوي للبنات في مسقط والتي عملت بها طوال ثلاث سنوات…
– ثلاث سنين قضيتها مع المجتمع العُماني، حدّثيني عن أهمّ نقاط وخصال هذا الشعب العربي الذي حللت ضيفة عليه ما بين 1992 و1995؟
كانت تجربة شيّقة وثريّة جدّا فقد عشت خلالها أحداثا كثيرة فيها الصعبة ولكن أغلبها كان ممتعا، وسؤالك هذا أهاج الذكرى وأيقظ الحنين إلى رحابة الأمكنة في تلك المدينة الفاتنة والتي لا تزال صور ماضي ذكرياتي فيها تحفر في أعماقي فتعيدني إلى شوارعها وأسواقها وحدائقها التي تُغويك وتأخذك إلى مكامنها وتكشف لك أسرارها فإذا بك تقع أسير سطوتها وسحرها فلكم أحببت سوق “مطرح” بألوانه الزاهية وبضائعه المتنوّعة ولكمْ وقفت الساعة وأكثر في مينائها أتأمّل الحركة والنشاط وسوق السمك، ولكم تمشّيت في كورنيشها وكنت أخذ إليه ولديّ كلّ يوم خميس أو أصحبهما إلى حديقة “رِيام” يجرّبون الألعاب في ملاهيها وأحيانا إلى “القُرم” وإلى معرض عمان الدولي الذي كان يُقام في “السيب”.
لم تدم إقامتي بعُمان سوى ثلاثة أعوام عدّتّ بعدها إلى بلادي وكان ذلك في الحقيقة لأسباب قاهرة ذلك أنّه حدث ان تركتُ ابني الذي انتقل إلى مرحلة من التعليم الابتدائيّ تُحتّم عليه تعلّم اللغة الفرنسيّة في تونس، وكنتُ قد اتّبعت نظاما مرهقا في تعليمه خلال العامين الأوّلين فقد آليْتُ على نفسي أن أدرّسه المنهاج التونسيّ باللغتين العربيّة والفرنسيّة موازاة مع دراسته في المدرسة العُمانيّة واتّبعت في ذلك صرامة في التوقيت والمضمون ما جعلنا أنا وهو نرهٓق كثيرا بالإضافة إلى عدم تلاؤم المناخ الحارّ مع صحّته فقد كان يشكو من حساسيّة مفرٓطة اتعبته كثيرا فقرّرت إبقاءه في العام الثالث في بيت أهلي في رعاية أسرتي وكنت استقدمه إلى عُمان خلال العطل وحدث أن شكا إليّ في إحداها غربته في بيت أهلي الذين لم يتعوّد على العيش وفق نمطهم وطريقتهم وكان يحدّثني عن وحدته وبكائه بصمت ليلا تحت الغطاء ما آلمني كثيرا وأرّقني فقرّرت العودة وقدّمت استقالتي من أجله…
– بالرغم المسافة الزمنية البعيدة ولكن نحاول استدراجك للتّذكر، كيف كانت أجواء الدراسة في عُمان خاصة لتونسية ومدرّسة لغة العربيّة في ثانويّة رُوِي للبنات في العاصمة مسقط؟
رغم مرور سنوات طويلة على عملي بعُمان لا زلتُ أذكر أيّام المدرسة في ثانويّة رُوي رفقة زميلات عمانيّات وأخريات من جنسيّات مختلفة كانت الأجواء في غرفة العربيّة والاجتماعيّات حميميّة نتبادل الأحاديث الشيّقة ونشرب الشاي والقهوة، وأجمل ما أذكره تلك اللقاءات بعد امتحانات النصف الأوٌل حيث تشرف المديرة على حفل بهيج يستغرق طوال اليوم ونتبادل خلاله مأكولات بلداننا الشهيرة وتقدّم أثناءه الطالبات أعمالا مسرحيّة وغنائيّة راقصة ممتعة وجميلة، وكانت طالباتي عزيزات عليّ أحبّبتهنّ وأحببنني وبادلنني الاحترام والتقدير والودّ الخالص وبعضهنّ راسلنني لفترة بعد رحيلي عن عُمان…
وقد رافقتُهنّ في رحلات خارج مسقط أذكر منها رحلة إلى نِزوى التي كانت عاصمة عُمان الأولى والتي تبعد عن مسقط قرابة 160 كلم وقضّينا فيها وقتا ممتعا للغاية فقد زرنا قلعتها الشهيرة وبعض أفلاجها الرائعة وتناولنا الغداء في بيت أهل إحدى الطالبات في قرية تبعد عن مدينة نزوى قرابة 15 كلم على ما أذكر…
– هل لديك صداقات قديمة، تعود إلى ذلك الزمن الفائت؟
لقد توطّدت علاقاتي ببعض الزميلات من عُمان ومصر والأردن وبعض جيراني في الحيّ الذي أقمتُ فيه، وقد كان غير بعيد من قصر السلطان قابوس وقتها وكان بيتي في مسقط مفتوحاً دائما للتونسيّين من الزملاء والمعارف المقيمين بالولايات الداخليّة وذلك أيّام العطل والأعياد يقصدون مسقط للتسوّق فيقيمون عندي بعض الوقت..
”- لو تطلعيننا على مناخات مجموعتك التي بعنوان “رحيل
وهي متوّجة من نادي القصّة أبو القاسم الشابّي بتونس؟
أما مجموعة “رحيل” فتتضمّن 11 قصّة تعدّدت فيها الأمكنة والأزمنة بين الماضي/ والحاضر٫ داخل الوطن/وخارجه، المدينة/والقرية البيت والمقهى والضيعة وفيها حكايا التونسيّين ورحلاتهم اليوميّة الشاقّة: شباب وكهول نساء ورجال يضيقون بحالهم ترهقهم أوضاعهم ويحلمون بعالم أبهى وأفضل - نودّ ونحن في حضرة أديبة تونسية، أن تُهدينا فقرة من قصة جديدة
هذا مقطع من قصّة جديدة:
“حين يلقي الصمت الرهيب بكَلكلِه على كتفيّ فيثقلها ويشلّ حركتي حتّى لكأنّه يفتّت عظامي تفتيتا أستجمع قواي وأسرع خارج البيت هربا من صباحاتي الخرساء، وكثيرا ما أحبّ أن أتمشّى في شارع ماربلاّ الظليل في مدينة نابل تغزوني رائحة الخبز الطازج والكرواسون المنبعثة من مخبزة الڨسطلي تختلط بأنفاسي توقعني في شراكها فأدلف إلى المخبزة عند الباب.
تتعثّر بي قطّة مكتنزة -قطط هذا الشارع لا تشكو الهزال ولا تموء كثيرا- تتطلّع إليّ لوهلة بدا لي وكأنّها تغمزني بعينيها الخضروين اللتين تشعّان دهشة وفضولا حين أهمّ بلمس شعرها الناعم تفلت هاربة وقد جذبتها رائحة سمك شهيّة.