أثير- الروائي الأردني جلال برجس
ليس من السهل أن يشي الآدمي بنفسه. ولا من السهل أن يتخلى العربي عن دور البطولة، والمثالية، والاتكاء على صورة مكتملة له. لقد فعلت ذلك على نحو ما حين كتبت سيرتي في (نشيج الدودوك)، أرى أني فعلت ذلك بضمير مستريح. لم يكن بالبال أن أمضي نحو القارئ عاريًا إلا من حقيقتي، الوردة التي طالما قاتلت لأحميها من وحوش العطش، وغربان الجفاف. لم أكن أفكر بتلك الخطوة في أن أقدّم له صورة واضحة عني، بلا محسنات بصرية، ولفظية، وسمعية. كنت مكتفيًا بعالم الرواية التي أمارس عبرها كتابة رؤيتي لهذا العالم الذي بات غريبًا أكثر من الغرابة ذاتها، وبات فنتازيًا على نحو يغلب على الفنتازيا نفسها. وحين أتحدث عن هذا العالم فإني أقصدني أنا، لأننا لا يمكن أن نرى الأشياء إلا من خلال نوافذنا، ولا يمكن أن نرى أنفسنا إلا من خلال تلك الأشياء.
كنت أهيئ نفسي للتماهي بعوالم رواية جديدة، تبعدني عن عوالم (دفاتر الوراق) التي كلما أدرت ظهري لها تمتد منها يد وتسحبني نحوها. لكن حدثًا شخصيًا أخذني إلى تساؤل أطرحه على نفسي للمرة الأولى: لماذا أقرأ، وأكتب، وأسافر؟ لماذا أفعل كل هذه الأشياء بنهم واضح؟ هل أفعل ذلك هربًا أم مواجهة؟ كنت في تلك اللحظة أقف أمام وحش الوجع، ولا أدري هل كنت أواجهه أم أني أفكر بالهروب منه عبر القراءة والكتابة والسفر. لحظة غريبة وجدت نفسي فيها عاجز عن العثور على إجابة محددة: هل أنا قوي، أم يحتلني ضعفي؟ هل أمتلك بعض الحكمة؟ أم يأخذني تهوري إلى جانبه؟ هل أنا حزين أم فرح؟
طرحت هذا السؤال ليس لأني فقط أؤمن أن أكثر الأسئلة جدوى هي تلك التي نتقصد أنفسنا بها، بل لأني ايضًا أردت أن أكتشفني من بعد جديد، يريني ما وراء ذلك الشغف. أعرف أني حينما أقرأ فإني أمارس شكلًا غريبًا من الغرق. وأدري أني عندما أكتب أجدني عاجزًا عن تجاوز لوثة تقمصي لشخصية الرواية بكل أوجاعها وابتهاجاتها. أدري أني حين أسافر أحس بخفة استثنائية لا يقترب منها قانون الجاذبية.
هذا السؤال قادني إلى فسحة من الكتابة شرطها الوحيد صراحة في الغوص إلى تلافيفي السرية، كتابة مهمتها أن أقلب القبعة ليُرى ما في داخلها. مع هذا النوع من الكتابة لا حاجة لفعل التقمص الذي أمارسه في رواياتي، بل إنه بحاجة إلى التحديق جيدًا بدفتر الذاكرة، ثم تسليم ما فيهما إلى يد الجرأة.
عبر عام من الكتابة اليومية، كنت أراني أكبر من جديد أمام عينيّ، وأنا أتتبعني في الطفولة، والشباب، إلى أن وصلت هذا العمر الخمسيني. لم أكن بحاجة إلى المخيلة، لقد أشرعت الذاكرةُ بابها على مصراعيه، وأخذتني يدٌ إلى مخبأها لتعيش الحواس حيواتها من جديد. لقد كتبت لنفسي، لأعثر على الإجابة، من دون ذلك الإنشغال الذي عادة ما يسيطر على الكاتب حين ينظر إلى القارئ من طرف أوراقه، بل كنت أنظر إليّ من منتصف الصفحة.
كانت كتابة سيرتي رحلة بحث عن نفسي، وعن الجواب الذي يقع وراء الشغف بثالوث بات أمره يحيرني من جانب، ويريحني من جانبه الآخر. وحين انتهيت من هذه المهمة الذاتية، وأعدت قراءة ما كتبت وجدتني أشي بنفسي لقارئ لا يعرف عني إلا ما ابتكره تأويله في رواياتي. كانت لذة العثور على إجابة ذلك السؤال الذي قادني إلى الكتابة، تطغى على قلق اهتزاز الصورة أمام من لا يعرفني. وحين قررت أن أنشر ما كتبت، فعلت ذلك ليجد الإجابة من يحمل في دواخله السؤال ذاته، لأن القراءة فعل لا يقل شأنًا عن الكتابة، خاصة حين نكتب حيواتنا بأدوات القراءة.