أثير – الروائي الأردني جلال برجس
بمن تأثرت؟ أحد أكثر الأسئلة التي تطرح على الكاتب، حينما يحقق منجزه الأدبي أثرًا ملحوظًا. تأنيت كثيرًا في الإجابة حينما طرح عليَّ هذا السؤال للمرة الأولى قبل سنوات، لأني في الحقيقة لم أكن قد وجهت هذا التساؤل لنفسي من قبل، ولم أكن حتى قد فكرت بتلك الكاتبة، أو ذلك الكاتب الذي وقعت في تقليده، ومن ثم عبرت إلى مرحلة التأثر التي لا بد أن تظهر ملامحها فيما أكتب، حتى بعد اكتمال سمات الصوت الكتابي الخاص، لأني وببساطة شديدة أخذت بكثير من الروائيين والقاصين والشعراء، على الصعيد المحلي، والعربي، والعالمي، واستغرقت بمحبة عالية بآثارهم السردية.
إن للتأثر الأدبي -برأيي-ثلاثة عوامل في غاية الأهمية: الأول مرتبط باللغة وما تعبر عنه من عناصر ثقافية بكل مستوياتها، وطبقات زمنية تخص تلك البصمة الثقافية التي تميز إنسانًا عن آخر. والعامل الثاني قادم من المكان ليس كمادة بصرية جامدة، بل على اعتبار أنه ذاكرة لحركة الإنسان، وذكرياته، وصراعاته الوجودية. أما الثالث فهو الموقف الثقافي بكل تجلياته السياسية، والاجتماعية، والفكرية من الذات، ومن قضايا الإنسان. إنها عوامل لا يمكن فصلها عن بعضها، بل إنها في ترابط وثيق.
هناك فارق بين الميل الأدبي، وبين التأثر الأدبي. إذن يميل الكاتب إلى أسلوب، أو لغة، أو طرائق التقاط الموضوعة الأدبية وغالبا ما يكون الميل مبنيًا على عنصر أما منفرد، أو مجموعة عناصر. أما التأثر الأدبي فهو مبني على الأسس الثلاث: اللغة، ووعي الكاتب بالمكان، وموقف الكاتب من الذات ومن قضايا الإنسان.
أول قراءاتي الروائية على الصعيد العالمي كانت لـ (فيكتور هوغو)، ثم تبعتها أعمالُ (شارلز ديكنز)، و(ياسوناري كاواباتا)، و(فوكنر). واعتقدت فيما بعد بأني تأثرت بتلك الروح الإنسانية التي تفهم جيدًا أبعاد معاناة الإنسان لدى (هوغو)، وحينما تأملت استغراقي بالمنجز الروائي لـ (ديستويفسكي) وذهابي إلى الطرائق النفسية لبناء الشخصيات اعتقدت أيضًا أن هذا شكل من أشكال التأثر الأدبي. وحدث هذا مع قراءتي لأعمال (نجيب محفوظ) ذات الوعي العربي في مقاربتها للإنسان ولواقعه، لكن ذلك لم يكن إلا ميلًا أدبيًا يحمل في بنيته ملامح ربما يظنها البعض ملامح للتأثر.
حين قرأت أعمال (غالب هلسا) متأخرًا-وذلك لأنها كانت ممنوعة وفقًا للفضاء السياسي آنذاك-شعرت مع أول رواية أني وجدت ضالتي، كان شعورًا غير مرتبط بهاجس البحث عن المعلم الخفي، إنما كان شديد الصلة بالعثور على حالة التوافق الحسي بالإنسان، والمكان، الزمان، أو بمعنى آخر العثور على الكاتب الذي ينظر إلى الكون من الزاوية التي تعنيني، وهذا بالطبع ليس له علاقة بالتفرد في البعد الخاص لفهم دواخلنا وما حولنا، إنما باللغة الخفية القادرة على تفكيك المشهد الحياتي وإعادة صياغته.
ولد غالب هلسا في (ماعين) قرية لا تبعد كثيرًا عن (حنينا) القرية التي ولدت فيها. وعاش قبل أن يرتحل بعيدًا عن الأردن -مأخوذًا بالعمل السياسي بموازاة الثقافي-التفاصيل الثقافية بكل مستوياتها لمجتمع أفهمه جيدًا، وأعيشه بعمق، وأدرك أبعاده، ومراميه، وطبقاته الزمنية. حينما قرأت وصفه للظلمة التي كانت تهجم على قريته من المساحات الممتدة في الجهة الشرقية لـ (مادبا) التي لم تصبح بعد مدينة في عهده، صرخت مندهشًا: هذا أنا. لقد كان الوعي ذاته بالمكان، وفيما بعد وفي كل أعمال غالب هلسا حتى التي خارج النطاق الثقافي الأردني، وجدت أني أقف في البقعة نفسها التي ينظر إلى العالم من خلالها.
لقد قرأ غالب هلسا (فوكنر) و(هيغل) و(غاستون باشلار)؛ فترجم كتابه الشهير (جماليات المكان) وانعكست ميولاته نحو تلك القامات الأدبية على نصه الروائي، لكنه كان مَيلًا برأيي. وقرأت (غالب هلسا)؛ فوجدت أني تأثرت به بعد شوط من التقليد غير المباشر الذي فيما بعد تخلصت منه، من دون القدرة، ولا الرغبة في التخلص من الزاوية بمكوناتها اللغوية، والثقافية، والفكرية في كتابة الإنسان، وإعادة تشكيل واقعه من زاوية مضادة للزاوية السائدة التي لم تستطع أن تنقذ الواقع من خرابه، وانهياراته.