أخبار

الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب ل “أثير”: “توريث الضَّغينة في جريمة الأب والابن ضد ميّْ”

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج

لمي ملايين من العشاق والمحبين من الشخصيات الوازنة، ولكن أيضا من قرائها الذين أحبوها وناصروها ودافعوا عنها. لكن الكثيرين أيضا حتى على المستوى العائلي، ظلوا يناصبونها العداء ويحملون لها ضغينة كبيرة.

السبب واضح، تضارب المصالح. فقد جُرِّدت من كل أموالها وأراضيها وبيتها في مصر، من طرف ابن عمها جوزيف زيادة، الذي أحبته بكل صدق وهي شابة صغيرة في ثانوية الراهبات، حتى آخر حياتها، على الرغم من فراره إلى باريس لدراسة الطب وتركها معلقة بين حب كان، وحاضر شديد القسوة. وأظن جازما أن ذلك الحب كان وراء كل الانهيار الذي لحق بها. فقد عاشت حالة تثبت لم تستطع التخلص منها.

وكلما وجدت البدائل الحياتية، تكشف لها أنه ليس هو المطلوب لأنه يبتعد عن النموذج الذي ترسخ في دماغها. لم تستطع أن تستوعب خيبتها الحارقة التي كانت وراء موتها قهرا في مستشفى المعادي بمصر. وقد جسدتها ليس روائيا ولكن في ديوانها الشعري الذي كتبته باللغة الفرنسية Fleurs de Rêves أزاهير حلم الذي نشرته باسم مستعار إيزيس كوبيا Isis Copia في سنة 1911. فيه دونت كل حرقتها بشكل يشبه القص الروائي. ابن عمها جوزيف كان سبب مأساتها التي جاءت –وهذا صحيح- على سلسلة من الخسارات المتلاحقة.

عاشت الجزء الأخير من حياتها في وضع شديد القسوة. فقد خسرت أهم الحيطان التي كانت تسندها بشكل متلاحق. فقد فقدت والدها، نموذجها في المقاومة والنجاح، الذي توفي عام 1929. ثم لحقه جبران خليل جبران في سنة عام 1931، وأمها التي فارقت الحياة في 1932. انتهى بها الأمر إلى انهيار نفسي صعب التحمل فاستنجدت بابن عمها جوزيف الذي ظلت تتراسل معه حتى زارها من باريس إلى القاهرة ليسلمها في النهاية لمستشفى الأمراض العقلية “العصفورية” وظل يناور في إرجاع أموالها أو دفع ثمن إقامتها في المستشفى من مالها الخاص الذي منعها منه بسبب حجره لها، ولم يسقط هذا الحجر إلا لاحقا، قبل موتها بقليل.

هذه العداوة التي اتصف بها جوزيف زيادة تجاه مي، ورثها لابته والقيم على أعماله. العداوة مرض مستفحل يخترق الإنسانية قاطبة طولا وعرضا. بل كثيرا ما تتحول إلى وسيلة لطمس الحقيقة بدل إيضاحها. وهو ما حدث مع مي زيادة. لقد أصبح أعداؤها من الأسماء المعروفة يعدون بالعشرات حتى وهي تحت التراب.

نتساءل أحيانا عن الأسباب الكامنة من وراء ذلك؟ هل هي متعلقة بالكتابة؟ بالشهرة؟ بالحقد المورث من الآباء؟ اختلال العلاقة مع العائلة المحافظة؟ سبق الحديث في هذا الموضوع لكن بشكل يكاد يكون خجولا. يفترض أن يكون الأبناء أكثر تسامحا مع الذين سبقوهم وأكثر موضوعية، لأن المسافات الفاصلة بينهم وبين العداوات العائلية بعيدة نسبيا، ثم إننا لا نعرف تفاصيل القصص بكل أسبابها وظروفها ويحتاج الأمر إلى بحث عميق. وقد يكون ما نعرفه عن الآخر- العدو؟- سطحيا ومحكوما بروايات قبلية، أحادية، لأنها مبنية على سماع الصوت الواحد الذي يرضينا وليس على الصوت الذي يضعنا في مواجهة أنفسنا ويقينياتنا ويهز الصور القديمة التي كوناها عن بعض أفراد العائلة.

موضوع مثل هذا يستحق كتابا يكون بمثابة رد على كتاب “عشاق مي”. من المؤكد أن أعداء مي الشرسين ليسوا قلة. وما قاله الدكتور ألكسندر جوزيف زيادة في ذكرياته في مجلة “سيدتي” يدخل بالضبط في هذه الخانة. لا توجد وثائق كثيرة في هذا السياق، لكن حوارا مهما في مجلة سيدتي قبل سنوات، يبين بشكل واضح درجة هذا الحقد وأسبابه ومؤدياته، لأنه يأتي من فرد ينتمي إلى عائلة زيادة، أكثر من ذلك، من ابن الشخص الذي دمر مي، جوزيف زيادة.

قيمة هذا الحوار حوار على الرغم من ضعف تصريحاته لأنها غير مؤسسة، يساعد القارئ الموضوعي، على الأقل بدون مسبقات، أن يتعرف على أعداء الجيل التالي الذين لم يعرفوا مي إلا سماعا. من يستطيع اليوم أن يخفي ما فعله جوزيف زيادة في مي التي طلبت نجدته برسالة كتبتها باللغة الفرنسية موجودة ومنشورة كوثيقة؟ فقد دمرها وسرق أموالها. نهب منها بيت أهلها الأساسي في ضيعة شحتول، وباعه لرجل لا علاقة له بالعائلة، كما بيعت أراضيها وممتلكاتها، وظل يماطل في إخراجها من العصفورية ومن مستشفى رابيز في مرحلة ثانية، على الرغم من الأوامر العليا الصادرة من رئاسة جمهورية في لبنان، ومن إشارة إنسانية من ملك الأردن وقتها الملك عبد الله، لتحريرها من أسرها الذي فرض عليها قسرا الذي نبهه الأمير سعيد الجزائري إلى حالتها المزرية في “العصفورية والمستشفى الأمريكي” ببيروت.

هل من الحق أن ندافع عن أطروحة الوالد فقط لأنه والد، حتى عندما يكون هذا الأخير مضرا وعنيفا وقاسيا بل ومجرما أيضا؟ هل الأبوة تكفي لطمس الحقيقة الموضوعية، أو السكوت على الظلم؟ كان يمكن أن تكون نظرة الدكتور إسكندر أكثر موضوعية ويتقرب من مأساة مي، وربما أيضا من مأساة والده لأن مستوى الانتقام الذي ظهر به، يظهر حالة مرضية ربما كانت تحتاج إلى علاج؟ ماذا كان يكلف ألكسندر لو اختار طريق الحق ودافع عنه؟

يقول في حوار سيدتي:” لم تكن مي زيادة سوى امرأة قاسية القلب. غير جميلة، وجامدة، لا تعرف معنى الحب في حياتها” موقف غير مؤسس مليء بالأحكام العمياء ضد امرأة هي في النهاية ضحية مكيدة دبرها والده. ويفصل الدكتور إسكندر زيادة في أحكامه التي تنبئ عن ضغينة لازمته لأن قضية مي لم تكشف مأساتها فقط، ولكن درجة الجشع والطمع التي اتصف بها جوزيف: ” إن والدي كان يحب الجمال، ومي لم تكن كذلك. كما أن والدي لم يكن يريد الزواج في الوقت الذي أشعرته مي بحبها له. أما السبب الثالث لرفضها، فلأن ذلك الطبيب الشاب كان قد فضل الزواج بسيدة أخرى، تنطبق عليها شروطه في فتاة احلامه باعتبارها صاحبة جمال وثقافة وحضور جذاب” لن أتحدث عن درجة العمى والإنكار ولكن السذاجة أيضا التي اتصف بها الدكتور إسكندر الذي سطح كل شيء دفاعا عن وهم افترضه حقيقة.

صحيح أن جوزيف اختار الذهاب إلى فرنسا وتزوج بسيدة فرنسية كانت تكبره سنا. وكان انتهازيا حتى في زواجه. لا نعتقد أنه اختارها لجمالها، فذلك يحتاج إلى تدقيق، ولكن المؤكد أنه بفضلها حصل على الإقامة وأصبح فرنسيا. تخلى عن مي لأنها لم يكن لديها ما تمنحه له إلا قلبها وحبها. كانت مي امرأة ساحرة وجذابة، وكان يظهر لها حبه بشكل دائم.

كل الوثائق المتوفرة تؤكد على أنه كان يذهب لها في ثانوية بيروت ويخرج برفقتها، ويقبلها أمام الجميع، وكانت سعيدة بذلك، وتحلم بمستقبل عاطفي جميل معه. وأن عائلة زيادة كانت على علم بهذا الحب. فقد رفضت مي كل من تقدم لها حفاظا على حبها لجوزيف.

ويذكر ألكسندر في ذكرياته عن ظروف العلاقة بين مي ووالده “إن عائلتيهما سعتا لترتيب زواج بينهما لكن هذه المساعي لم تنجح” مما يدل بالنسبة له أنه لم يكن حبا ولكن مجرد ترتيب عائلي لم يكتب له النجاح ويضيف: “ما من نص مكتوب يثبت ذلك الحب، وربما تكون قد عبرت له عن حبها شفهياً، علماً أنها راحت تراسله بعد انتقالها إلى مصر لكن بشكل قليل.” يحتاج المرء إلى قدر من الجهل ليقول كلاما مثل هذا.

ديوانها “أزاهير حلم”، كما ذكرت سابقا، 1911 وهو أول كتاب لها كتبته بالفرنسية، عبرت فيها عن ذلك الكسر العميق الذي حدث في حياتها بسبب “التخلي” الذي كسرها عميقا في داخلها. وجزء من ارتحالها إلى مصر وابتعادها عن لبنان كان بسبب هذه الخيبة القاسية.

لا أدري إذا كانت فكرة “أن إقامتها في بيته (جوزيف زيادة) بعد عودتها من القاهرة كانت بهدف إقناعها بالزواج منه بعد وفاة زوجته، وعندما لم توافق، أدخلها “العصفورية” ولم تخرج منها سوى تحت ضغط من احتجاج المثقفين اللبنانيين والمصريين آنذاك” فقد عرفت بسرعة أهدافه. وعنما طالبت
بإرجاعها إلى القاهرة، زج بها إلى العصفورية.


وهذا ينفي كليا ما قال صاحب الذكريات، الدكتور ألكسندر جوزيف زيادة من انها “دخلت المستشفى على يد والده بموافقتها وارادتها الحرة” أيصل تشويه الحقائق إلى هذا الحد. ربما لم يكن يعرف بوجود سيرتها “ليالي العصفورية” التي يكون قد مزقها هو أو والده، والتي تفضح فيها كل ما حدث لها. بعض من شذرات هذا النص المحروق موجودة في كتاب: امين الريحاني “قصّتي مع مي”، وهي تدين جوزيف بشكل معلن وواضح وتصف الآلام التي كان سببا فيها.

لم يكن من الممكن تلفيق قصة بهذه السهولة. فقد لعبت دورا كبيرا في النهضة الاجتماعية والأدبية في منطقة الشرق الأوسط. وكانت سيدة مجتمعية مهمة، وتدير أحد أكبر الصالونات الثقافية العربية الذي سمته “الندوة”. وكان يزورها في الصالون كبار ذلك الزمن من الذين حملوا على ظهورهم سبل التحديث والتغيير، من أبرزهم احمد شوقي، خليل مطران، حافظ إبراهيم، طه حسين، لطفي السيد، مصطفى صادق الرافعي، المازني، داود بركات، انطوان الجميل، سلامه موسى، إسماعيل صبري باشا الذي كان يدير الجلسات وغيرهم.

صحيح أن النخب العربية صمتت على مأساتها بمن فيهم أصدقاء الأمس، لكنها وجدت في كل من أمين الريحاني، وخليل خوري، ومختار الجزائري، ومصطفي مرعى وزوجته وسواهم، ما ساعدها على الخروج سالمة من أكبر جريمة مورست ضد واحدة من أكبر الكاتبات العربيات.

Your Page Title