فضاءات

هل سيتجه التعليم إلى اقتصاد المصانع لضمان استيعاب مخرجاته؟

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير: د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية بمجلس الدولة

جاء توجيه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- في ترأسه لاجتماع مجلس الوزراء في السادس والعشرين من فبراير لعام 2023 بـ “أهمية تعزيز المحتوى المحلي للصناعات العمانية وإعداد سياسات وطنية حولها، بهدف تقليل الواردات وزيادة الصادرات، مع التركيز على المشاريع التي تسهم في تحقيق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني وتوفير فرص عمل للمواطنين”؛ دعوة سامية نحو إيجاد اقتصاد عماني أكثر نضجا وانفتاحا وتركيزا على الاستثمارات الحقيقية النابعة من عمق التجارب والتطبيقات العملية التي تؤسسها المصانع نظرا للمردود الاقتصادي والعائد المادي والفرص التشغيلية التي تطرحها، فإن ضرورات الاتجاه إلى اقتصاد الصناعة العمانية يمثل اليوم خيارا إستراتيجيا وطنيا، نظرا لارتباطه بعمق المشكلة الوطنية ممثلة في ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل والمسرحين من القطاع الخاص، ومفهوم العرض والطلب في سوق العمل المحلي، وموقع القطاع الخاص من المنظومة الاقتصادية، والصورة غير المريحة التي بات يسقطها في ثقافة مدخلاته من مخرجات التعليم المدرسي والعالي على حد سواء، وتصبح الصناعة الطريق الآمن – رغم المخاطر المترتبة عليه- لاقتصاد مستدام ومتنوع، تسهم في تحريك الماء الراكد عبر ما تثيره من فرص التجدد في الكفاءة الوطنية ومهاراتها والتنوع في الخيارات والبدائل المطروحة، وضمان التكيف مع احتياجات المواطن العماني وأولوياته، فإنها في المقابل تعزز من الأمن الاقتصادي والاستدامة، عبر وجود مجتمع صناعي واعد، ومواطن يتقن مهارات الصناعة ويستنطقها في مبادئه وقدراته واستعداداته، فيعتمد على نفسه ويسوّق لذاته، ويستنهض استعداداته وروح العطاء لديه، ويستفيد من موارده ويشجع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على الاستثمار في الصناعات التحويلية، ويعمل على استقطاب الشباب العماني من مخرجات الدبلوم العام، ويولد مساحة أوسع لنمو المهارات الناعمة والتقنية التي تحتاجها المصانع، إذا ما سلمنا بأن مدخلات المصانع من الموارد البشرية والكفاءة الإدارات والمالية بحاجة إلى المهارات وامتلاك أدوات وقيم العمل أكثر من المؤهلات الدراسية.

وبالتالي ما يعنيه ذلك من أهمية الانطلاقة من التعليم في إنتاج هذا النموذج الاقتصادي القائم على تعظيم المهارات، وتنشيط حركة المعرفة والمحتوى المهني والتقني في بيئات التعلم ومناهج التعليم ورفع مستوى إدماج المفاهيم الاقتصادية والخبرات والتجارب العملية في سبيل إنتاج مواطن قادر على التكيف مع مستجدات الواقع الاقتصادي ويترك بصمة حضور له في انتعاش الاقتصاد الوطني ليصبح اقتصاد المصانع الطريق الأمثل لصناعة القوة الاقتصادية، مع القناعة بأن مسألة التنويع في المسارات التعليمية لا تعني إضافة مواد مهنية أو أخرى تتعلق بالبعد الاقتصادي والاستثماري فحسب، بل إن تراعي هذه المسارات الامتداد الأعمق للتوازن في بناء الشخصية العمانية، والتنوع في مسار التخصصات والوظائف والبنى التطويرية لمؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة وجامعة السلطان قابوس سواء فيما يتعلق بإنتاج القدرات الوطنية بالتخصصات المهنية والتقنية والفنية، والزراعية، والصناعية، وريادة الأعمال؛ لذلك كان إقرار مقترح الخطة الدراسية لطلبة التعليم المدرسي بالتركيز على المهارات وإضافة بعض المواد المهنية، والبرنامج الدراسي لتطبيق التعليم التقني والمهني، خطوة مهمة،- بحاجة إلى ضمانات لنجاحها في الواقع، وموجهات تشريعية ورقابية وتقييمية داعمة من داخل وزارة التربية والتعليم وخارجها وبمشاركة القطاع الخاص ومؤسسات الأعمال في ضبط مسار هذه الخطة وتوجيه بوصلتها نحو تحقيق الأهداف الوطنية العليا، وتجسيد عملي لها في الواقع الفعلي مع توفير الممكنات المالية والتدريسية والتشغيلية ونقل عملية التدريس من التنظير الفلسفي إلى التطبيقات العملية وتعظيم دور المختبرات العلمية ومراكز التطبيقات المعملية ونظم المحاكاة والتجريب، لضمان استدامة كسب الثقة في مخرجات التعليم المدرسي سواء من خلال مؤسسات التعليم العالي وسوق العمل في ظل طوابير تكدس الخريجين، أو تلك التي ما زال يشكك فيها رجال الأعمال وأصحاب الشركات، أو يتحدث عنها بعض المسؤولين بالدولة، فهي خطوة يجب أن تتبعها إجراءات على الأرض وسياسات ناضجة تشريعية ومهنية مدركة من القطاع الخاص ومؤسسات الاقتصاد والمال الحكومية في سبيل توظيف فرص الاستفادة من هذا التوجه في بعث روح التغيير في القدرات الوطنية وتوجيه الإرادة العمانية نحو الدخول في عمق التجربة وأرضية الواقع.

من هنا فإن نجاح منظومة التشغيل والتوظيف، مرهون بقدرة المنظومة التعليمية على إحداث التغيير في السلوك المهني للمواطن العامل الذي سيعمل على إدارة والانخراط في سوق العمل، وكلما استطاعت مؤسسات التعليم أن تؤسس نماذج تطبيقية محاكاة للواقع، وتقدم ممكنات مهارية قوية، عبر ما تولّده من طاقة إيجابية نحو العمل وأخلاقياته وقوانينه ونظمه وثقافة العمل، سهّل ذلك على القطاع الخاص ومؤسسات العمل في الوصول إلى أهدافها، غير أن هذه النظرية مرتبطة أيضا بمسار المواءمة والتوسع الحاصل فيها، والقوة الأدائية الناتجة عنها، والتقارب الفكري والمهني والموضوعي بين مؤسسات التعليم والعمل، بما يستدعيه من خطوات استباقية تقوم على: استقراء موسع لمستوى التطور الحاصل في القطاع الخاص وسوق العمل سواء من حيث طبيعة الأعمال والأنشطة المستجدة التي يتعامل معها القطاع الخاص وقطاع الأعمال والريادة، وسقف المعايير التي تحتاجها الوظائف المطروحة في الحكومة والقطاع الخاص، وأنواع البرامج التطبيقية، الإثرائية والتدريبية والتحفيزية التي تنقل التعليم من التلقين والتنظير والمراجعات المبتورة، ليصبح مجالا خصبا للإبداع والابتكار والريادة، ونمو المواهب، وإنتاجية المهارات الناعمة التي يتطلبها سوق العمل.

وعليه فإن دخول التعليم وتكامله مع منظومة التشغيل والتوظيف سوف يسهم في إعادة بناء منظومة التشغيل وفق ممكنات ومرتكزات أكثر قدرة على استيعاب التطوير الحاصلة في بيئة المصانع والأجهزة والمعدات الصلبة أو الناعمة التي يدخل فيها جانب التسويق وتقييم العرض والطلب والمعايير والمواصفات الفنية، لاعتمادها على أطر فلسفية واضحة ودقيقة تحدد ماذا يريد القطاع الخاص من التعليم، وكيف يمكن للتعليم أن يسهم في صناعة التحول في القطاع الخاص وإعادة إنتاجه بما يخدم منظومة العمل، وبما يبرز روح التناغم والتكامل، فإن القصور في هذا المسار وفجوة التكامل بين الفلسفة التعليمية وسوق العمل، أدت إلى حالة من الفتور في القطاع الخاص وعدم وضوح مسار عمله، بل ظل على مدى خمسة عقود يعتمد على دعم الحكومة وما تقدمه لها من برامج للدعم والتطوير والحوافز والتسهيلات وإخراجه من كومة الإفلاس وإعفائه من الضرائب وغيرها، فإن إيجاد السلوك المهني في رائد الأعمال وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة يرتكز على الشحنات والدعامات الفكرية والمهنية والمفردات الاقتصادية التي اكتسبها في مقاعد الدراسة حول طريقة إدارة الموارد وتنفيذ وإدارة المشاريع والتعامل مع الأزمات، وترتيب أوضاع المؤسسة من جديد، لتظل حاضرة تتجسد في ممارساته المهنية وتدفعه بصورة مستمرة إلى إضافة النكهات التطويرية والتجديدية لممارساته القادمة. كما تقع على القطاع الخاص مسؤولية ترك بصمة حضور له في الواقع الاجتماعي والمعيشي والاقتصادي والوظيفي للمخرجات، وتكامل البيانات والدراسات المسحية والاحصائية ونظم المعلومات، والمصداقية والشفافية التي يجب أن تحصل بين هذه القطاعات.

أخيرا؛ فإن قدرة التعليم على الوفاء بتعهداته نحو المواطن والحكومة ورجال الأعمال بحاجة إلى قراءة خطط التطوير في إطار أكثر شمولية واتساعا، ويؤكد الحاجة إلى مزيد من التوأمة والتكامل بين المدن الاقتصادية الكبرى بالدقم وصحار وصلالة، والمناطق الصناعية بالمحافظات ومؤسسات التعليم، بحيث ترفد المدارس والجامعات المصانع بالقدرات والكفاءات القادرة على إدارة عمليات الإنتاج مع قليل من التدريب، وإعادة إنتاج وهيكلة وتطوير الأكاديميات المهنية وتفعيل دورها في ريادة الأعمال وإنتاج المهارات التي يتطلبها سوق العمل العماني والشركات متعددة الجنسيات التي ستضع رحالها في الدقم وصلالة وصحار، وبالتالي الحاجة إلى الارتباط بالقطاع الصناعي وخلق فرص أكبر تعزز من قدرة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على الدخول بقوة في قطاع الصناعات التحويلية بالسلطنة، ودور أكثر فعالية للحكومة في مراجعة سياسات البنوك التمويلية والتجارية في تقديم الحوافز والممكنات والامتيازات التي ستبرز منافعها على الاقتصاد الوطني وتشغيل القوة العاملة الوطنية، بالإضافة إلى تعظيم الاستثمار في القطاع الصناعي باستقطاب المستثمرين العالميين، ناهيك عن إيجاد مجتمع صناعي ومواطن يحترف الصناعة متمكن يسهم في تنشيط حركة الصناعة في المناطق الصناعية بالولايات ويعيد هيكلة منتجاتها الصناعية لتغطية الطلب عليها من السوق المحلية والسوق العالمية على حد سواء وارتباطها بشراكات إقليمية ودولية تضمن تحقيق استدامة وتنوع في العائد الاستثماري وعبر إدارة مؤسسية ذكية متكاملة، تتسع عناصر الإنتاج فيها، بحسب تنوع وتعدد قطاعات الدولة المعنية بهذه البيئات، وحضور قوي للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة في رسم خريطتها الإنتاجية، فهي مطالبة اليوم بتحقيق مستويات عليا من التوازن في الأنشطة الاقتصادية والتجارية وخاصة ذات القيمة المضافة للاقتصاد الوطني، ومطلوب منها أن تتعامل مع حجم الاحتياج المجتمعي من الصناعات التحويلية والأنشطة النوعية المتخصصة، وأن تشكل بدورها نافذة موحدة لخدمات متكاملة تعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي للمحيط الجغرافي الذي تعمل فيه كحد أدنى، وهي بحاجة إلى أن تضمن وجود مؤسسات ومراكز للتطوير الإداري والفني والصناعي والتخصصي والبحثي، ومعامل الإنتاج والتجارب، وأنظمة الاتصال والمعلومات والتقنيات الحديثة والدعم المعلوماتي والأمني، ومراكز الدراسات الإستراتيجية المسحية ودراسات الجدوى، والمراكز العلمية الصناعية والبحثية والمختبرات الداعمة وغيرها كثير.

Your Page Title