أبجد

صنعاء .. عبق التاريخ – حكاية مدينة

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

قبل أن أقيم بها ، رأيت صنعاء في صفحات التاريخ ، ونصوص الشعراء ، واستوقفتني صورتان لها الأولى للشاعر عبدالله  البردوني وردت في قصيدته التي القاها في مهرجان “أبوتمام” بالعراق

حبيب وافيت من صنعاء يحملني

حبيب وافيت من صنعاء يحملني

نسر وخلف ضلــوعي يلهث العربُ          

نسر وخلف ضلــوعي يلهث العربُ          

ماذا أحدّثُ عن صنعـــاء يا ابتي

ماذا أحدّثُ عن صنعـــاء يا ابتي

مليحة عاشقــــاها :السلُّ والجربُ        

مليحة عاشقــــاها :السلُّ والجربُ        

ماتت بصندوق ” وضاح ” بلا ثمنٍ

ماتت بصندوق ” وضاح ” بلا ثمنٍ

ولم يمت في حشاها العشقُ والطربُ    

ولم يمت في حشاها العشقُ والطربُ    

كانت تراقب صبح البعث فانبعثت

كانت تراقب صبح البعث فانبعثت

في الحلم ثم ارتمت تغفــــو وترتقبُ         

في الحلم ثم ارتمت تغفــــو وترتقبُ         

لكنها رغم بخل الغيث ما برحت

لكنها رغم بخل الغيث ما برحت

حبلى وفي بطنها ( قحطان) أو (كربُ    

حبلى وفي بطنها ( قحطان) أو (كربُ    

وفي أسى مقلتيها يغتلي  يمنٌ

وفي أسى مقلتيها يغتلي  يمنٌ

ثانٍ  كحلم الصبــــــا .. ينأى ويقتربُ

ثانٍ  كحلم الصبــــــا .. ينأى ويقتربُ

وأخرى وردت  في قصيدة لعبدالعزيز المقالح :

صنعا وإن أغفت على أحزانها    حيناً وطال بها التبلد والخدر

صنعا وإن أغفت على أحزانها   

 

حيناً وطال بها التبلد والخدر

سيثور في وجه الظلام صباحها  حتما ويغسل جدبها يوماً مطر

سيثور في وجه الظلام صباحها 

 

حتما ويغسل جدبها يوماً مطر

 

وحين حطّت بي الطائرة “خطوط عالية” المتجهة من العاصمة الأردنية عمّان إلى مطار صنعاء الدولي قد وضعت باعتباري هاتين الصورتين ، لكنّني منذ الساعات الأولى من وصولي إليها أحببتها وشعرت أنّها تغمرني بعباءة حنان شاسعة ، و ” لابد من صنعا وإن طال السفر”

وصنعاء التي تسمّى (أزال) نسبة إلى  أوّل من اختطها وهو آزال بن يقطن بن عامر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح موجودة منذ منتصف الألف الأولى قبل الميلاد كما يؤكد العالم الايطالي باولو كوستا أما اسم صنعاء فهو مشتق من (صغو) ويعني المكان المحصن تحصينا جيدا كما شارت بعض النقوش السبئية والحميرية متحدّثة عن  المكانة التى حظيت بها كقاعدة عسكرية للدفاع عن اليمن واقترن اسم صنعاء بالاحداث التاريخية وبالحروب التى دارت بين السبئيين والريدانيين واستمرت هذه الاحداث حتى بعد دخول الاسلام اليمن

ويذكر كتاب الدكتور عبدالرحمن يحيى الحداد (صنعاء القديمة) إن مدينة صنعاء عانت كثيرا من وطأة الصراعات والحروب والفتن الداخلية والامراض ـ كالطاعون مثلا ـ وقيل ان نصف المدينة قتل في احدى هذه الفتن وساهم حكم الائمة في تعطيلها وانقطاعها عن العالم الخارجي لكنها اليوم تحاول النهوض من سبات طويل للحاق بركب العالم لانها وجدت نفسها تعيش في الماضي هذا الماضي الذي يغري الاوروبيين بالسياحة فيها لقدمها حيث يحرصون على  النوم في البيوت الصنعائية القديمة بعيدا عن الفنادق الفخمة والمصاعد وتكنولوجيا البناء الجاهز.

ولعل أكثر ما يغري السياح بزيارتها هو اعتدال مناخها على امتداد فصول السنة ولذلك سمي اليمن بـ (اليمن السعيد) كما يعتقد البعض،  ولعل هذا يفسر كثرة السياح في فصل الشتاء حيث الجو الدافىء ، والشمس المشرقة ، وهناك سبب آخر هو طراز الحياة الذي يجعلهم ينقطعون عن ضجيج الحياة المحاصرة بالتكنولوجيا وكثرة البنايات القديمة والاثار التى تقف كنيسة ابرهة المعروف بـ (غرقة القليس) التى شيدت عام 537م بعد 12 عاما من غزو الاحباش لليمن عام 525م وكانت كنيسة القليس كما يذكر الحداد ـ اكبر منشأة دينية مسيحية في جنوب البحر الابيض وقد أراد القائد إبرهة ان ينافس بها مدينة مكة وكعبتها المقدسة وقد فشلت غزوة ابرهة لمكة المكرمة وأصيب فيها وسقطت حملته عليها كما تفشى وباء الحصبة والجدري بين جنوده بعد ان سلط الله عليهم (طيرا ابابيل ترميهم بحجارة من سجيل) وماتزال اثار هذه الكنيسة موجودة لكن اليمنين ينظرون لها بالازدراء ويرمون عليها القمامة لما تمثله من رمز للاحتلال الحبشي ولهذا يطلقون عليها اسم غرقة القليس ازدراء وعندما حاولت التقاط صورة  في غرفة القليس التى بقي منها سور دائري  يطل على حفرة تتجمع  فيها القمامة رفض أحد اليمنيين مساعدتي ونظر الى بازدراء قائلا: أتريد أخذ صورة في هذا المكان العفن ؟ مشيرا الى عفونة تاريخية تحيط المكان الذي يذكرهم بالغزو،  بينما رأيت رجلا مجنونا يدعو الناس للتوجه عند الصلاة صوبها حيث تقع عند باب اليمن فأحيط  بمجموعة من الرجال قامت  بطرده من الجامع.

وتشتهر المدينة بجوامعها ويعتبر الجامع الكبير بالنسبة لصنعاء أعظم أثر اسلامي فقد قام بتأسيسه الصحابي معاذ بن جبل الانصاري وقيل ان الذي شيده هو الصحابي فروه بن مسبك المرادي وتم بناؤه تنفيذا لاوامر الرسول صلى الله عليه وسلم في العام السادس الهجري وهناك مساجد اخرى يبلغ عددها 106 مساجد كما جاء في تاريخ مدينة صنعاء لاحمد بن عبدالله الرازي الصنعائي لكنه لم يبق مفتوحا للعبادة منها الان الا اربعون مسجدا ومن المظاهر الاثرية لمساجد صنعاء القديمة تخصيص بئر خاص وبستان لزراعة السلطة يسمى بـ(المقشامة) وهي أرض موقوفة لخدمة المسجد وتعتبر جزءا مندمجا في النظام الاجتماعي والاقتصادي لمدينة صنعاء وتسقى المقشامة من ماء المسجد وتقدم منظرا للبيوت المطلة عليها وتشكل مصدرا يساعد على تجديد هواء المدينة.

ومن مظاهر  صنعاء القديمة أسواقها التقليدية إذ اشتهرت بحرف عديدة كصياغة الفضة والعقيق اليماني وصناعة الحلي،  وتكثر فيها الحمامات المبنية على الطريقة التركية والسماسر التى يزيد عددها على احدى عشرة سمسرة تستخدم كمخازن للتجارة كسمسرة العنب وسمسمرة النحاس وسمسرة الحبوب وسمسرة القشر وسمسرة البهارات وهناك ساسمر المسافرين التى تستخدم على شكل نزل او فنادق تأوي المسافرين ودوابهم.

وعندما تغادر صنعاء القديمة ترى  سور صنعاء الذي هو عبارة عن بنيان من الطين لكنه يمتلك مقومات الجمال ومتانة ويقال ان (شعرم اوتر) هو الذي بنى سور صنعاء وكانت ابواب السور اربعة فقط هي باب اليمن وباب شعوب وباب السبحة او باب السباح وباب القصر او باب ستران اما الابواب الاخرى كباب خزيمة وباب الشقاديف وباب البلقة وباب الروم وباب القاع فهي ابواب محدثة ـ كما يقول الدكتور عبدالرحمن يحيى ـ ويرجح القاضي محمد الاكوع تاريخ وجودها للقرن الثاني عشر الهجري او قبله بفترة يسيرة ويعتقد ـ باولوكوستا ـ ان منطقة باب اليمن وسورها صممه مهندس عسكري تركي خلال الفترة الواقعة بين عام 1875 ـ 1880م.

وبعد هذه الرحلة هل نكتفي بهذه السطور لشم عبق هذه المدينة الموغلة في التاريخ والنقوشوحيطان الطين والقمريات التى تعود إلى أزمنة سحيقة ؟

____________________________________________________________

عبدالرزاق الربيعي

شاعر وكاتب – العراق

Your Page Title