فضاءات

جولة في مجموعة “ينام في الأيقونة” لعبدالقادر الحصني

جولة في مجموعة “ينام في الأيقونة” لعبدالقادر الحصني
جولة في مجموعة “ينام في الأيقونة” لعبدالقادر الحصني جولة في مجموعة “ينام في الأيقونة” لعبدالقادر الحصني

أثير – مكتب أثير في تونس
قراءة: محمد الهادي الجزيري


نحن اليوم في حضرة أحد الرموز الشعرية في زمننا الحالي، شرّدته العواصف إلى مدن غير التي يهواها، وذاق أهوال الفراق عن وطنه جرّاء ما حدث في سوريا، ولكنّه ما زال يصدح بالغناء الحر والشعر الصافي، رغم ما وقع في بلده من تفاصيل يحار فيها القلم والورقة والمجازات جميعها، إنّه عبدالقادر الحصني، ولي مدّة وأنا أفكّر في الكتابة عنه ضمن “قامات مضيئة” وأؤجل الأمر لأسباب أجهلها، ولكنّي سأكتب عن تدفّقه الشعري وحياته المقترنة بالصدمات، صدمة الحبّ.. وصدمة الوطن.. وصدمة الوجود، على كلّ، ريثما يطيب الثمر أدعوكم إلى جولة في مجموعة “ينام في الأيقونة”…

“كأنّ الكلام انتهى
كأنّ المفاتيح ضوء غشيم،
وأقفالها السود ليست لها
كأنّ الذي لم يقل بعدُ،
قد قِيل من قبلُ…”



يباغتنا الشاعر بالحقيقة الفاجعة، منذ البداية، ففي قصيدة “المغني” يطرح الأسئلة الحارقة، ويشرحُ لنا كيفية صناعة الشعر، هل أجاد في القول، هل وجد ضالته بين الحروف والكلمات، هل نسخ القصيدة التي رآها في تأملاته ورؤاه؟، أم يردّد ويهمس إلى نفسه “كأنّ الكلام انتهى”، ولا سبيل لعودة الناي إلى خضرة الغدير، فقد انتهى حطبا يابسا، هذا يقوله كبيرنا وقائد قوافلنا الشعرية، فماذا نقول؟ نقول لابدّ من طرح الأسئلة النازفة المتهالكة الملغّمة على الذات المبدعة، لكي تحاول خلق الكلام الذي لا يُقال، وهذا ما فعله عبد القادر الحصني في مطلع مجموعته “ينام في الأيقونة”.

في قصيدة “مقدمة للصمت” يفتح فمه، مسام جسده، أعماق روحه، ثغرات حروفه وكلماته.. ينفتح بكلّه لتخرج منه القصيدة، تطلّ منها في الظلام الغامق صورة الحبيبة، ونرى في العتمة المنارة تيها جميلا وعدنا به الشاعر، ونشهد كيف يتمّ إقناع القصائد بأنّ لها غايات أبعد ممّا تتخيّل، ونسافر مع رحلة نوح وسفينته الملأى بالخلق، ونتابع كيف يسأل الكائن الإنساني أسئلة البدء عن الوجود والآن وهنا.. كلّ ذلك في غموض يتقنه الشاعر وتفرضه الصنعة، كلّ ما يتمّ في هذه القصيدة الرائعة، يتمّ في:

“لا بدّ من شجر كثيف غامق
ليغيب أمشاط من الألماس
في شَعر القصيدة..”


نصل إلى (طعم الليل).. ونقرأها ونعيد قراءتها، فنتعجّب من زماننا هذا السخيف، يعرض علينا كلّ بضاعة فاسدة، ويخفي الجواهر في هامش المتن، صراحة وأنا بصدد قراءة هذه القصيدة، أنحني للمبدع الأكبر الذي أعطى هذه الموهبة الخارقة لعبد القادر الحصني (على فكرة: سأكتب عنه وعن مسيرته وحياته في قامات مضيئة..)، لقد قال فيها كلّ ما يريده محبّ، وقال أيضا:

“هي ذي مصابيح البيوت إلى انطفاء
والنوافذُ: كلّ نافذة إلى شأن..”


فهو على اطلاع على شؤون العالم، ولكنّ شغله الشاغل وجه الحبيبة، وهو يتحدّث عن تفاصيل الخرافة والتاريخ والأسطورة، ثمّ يعترف بأنّ للسرد مأزقه، ثمّ يترك لسان منه ليطلب من العاشق الشاعر:

“هلاّ تعيد على مسامعنا الحكاية
مرّة أخرى
وتذكر أنّ أوّلها التماع
بثّه ملك كريمُ
فأضاء وجه صبية
يلهو بغرّتها النسيمُ”




في كلّ شاعر حقيقي أجد صدى اللطمة التي ما يزال يتلقّاها الشعب الفلسطيني ومن بعده الشعب العربي، وها هو عبدالقادر الحصني يتطرّق إلى هذه المأساة التاريخية، وإنّما يذكرها بطريقة مغايرة لما يتداوله العديد من الحمقى والعامة، وبعض الإخوة المجانين في حبّ فلسطين، اسمعوه وهو يتحدّث عن جرح لا يشفى، وقد كتب “الضجيج” بمناسبة مرور خمسين عاما على نكبة فلسطين:

“ثقيلا يمرّ الضجيج
ثقيلا يمرّ كأن لا يمرّ
يخيّم فوق الرؤوس
ويكمن بين اعتلاج النفوسِ
ويشرب قهوته معنا في الصباح
يُلوّث أفواهنا بالشعارات
أسماعنا بالخطابات
أحداقنا بالوجوه المريضة للساسة الخائبين
فتعلو الهتافات
تعلو الزغاريد والوَلْوَلاتُ
ويعلو النشيد النشيجُ
فيرحل زهو العواطف
يرحل نبل المواقف
وينسحب الحبّ حقّا
وينسحب الكره حقّا
ويبقى الضجيجُ
ثقيلا يمرّ الضجيجُ”









 

جولة في مجموعة “ينام في الأيقونة” لعبدالقادر الحصني
جولة في مجموعة “ينام في الأيقونة” لعبدالقادر الحصني جولة في مجموعة “ينام في الأيقونة” لعبدالقادر الحصني

افتتحنا المقالة بمقطع من قصيدة “المغنّي” ونختمها بسطرين من نفس القصيدة، لكي تُدركوا أنّ عزيمة الشاعر الشاعر، تبقى هي الأغلب وإن طغى الغبار واعتكف في ركن قصيّ من هذا العالم الموبوء:

“..إنّ المغنّي حريٌّ بأن يلبس الأرض زينتها
من جديد، ولو بقيتْ عشبة واحدةْ”.


Your Page Title