أثير- عبدالرزّاق الربيعي
حين صرخ (الملك لير) في مسرحية الكاتب الإنجليزي وليم شكسبير “يا أهل النعمة والثراء، خذوا من ذلك دواء، سيروا في الأرض واستشعروا ما يستشعر الفقراء؛ فلعلكم أن تنفضوا إليهم فضل ما في يدكم ” فإنّه أراد أن يوجّه الأنظار إلى الفقراء للاقتراب منهم ومعرفة معاناتهم، وكان قد استشعر تلك المعاناة بعد إحساسه بالظلم الذي وقع عليه بعد تنكّر ابنتيه (غونوريل) و( ريغان) له، فيما حرم ابنته الصغرى (كورديليا) من الميراث، لاعتقاده بأنها أقلّ حبّا له منهما، لكن يقينا أن الملك لير لو أتيحت له فرصة النزول من رفوف المكتبات، والجلوس في مسرح (شكسبير جلوب) الكائن في جنوب لندن، وتقاسم مع الصائمين الذين لبّوا دعوة القائمين على مبادرة “الإفطار المفتوح” و”مشروع الخيمة الرمضانية” لشعر بالزهو وهو يرى حالة مثلى من التضامن المجتمعي في بريطانيا، تجسيدا لقيم التعايش والتلاحم والتآزر، والسعي على طريق العدالة الاجتماعية.
وقد اختارت المبادرة، التي تحتفل بالذكرى العاشرة لتأسيس مشروع الخيمة الرمضانية مسرح (شكسبير غلوب)، وهو المسرح العريق الذي تأسّس عام 1598 م قبل أن يلتهمه حريق عام 1613م، كما يشير تاريخه، ليعاد بناؤه عام 1614 م، ولم يسلم من الأذى، فهدّم عام 1644م والمسرح الحالي هو إحياء لهذا المسرح الاليزابيثي العريق الذي شهد العروض الأولى لتلك المسرحيات الخالدة، أقول: اختارت المبادرة المسرح لتقيم به الإفطار الجماعي، مثلما فعلت طوال الشهر، فخرجت من البيوت، والمساجد والتجمّعات الضيّقة، وانتقلت إلى أماكن تاريخية، وسياحية، وحدائق وشوارع رئيسة في لندن، لأهمية هذا المكان، خصوصا أنّ في مسرحيات شكسبير( 1564- 1616م) ترد الكثير من الإشارات إلى الثقافة الإسلامية أو الأنماط الإسلامية كما يصف الباحث ماثيو ديموك، أستاذ الدراسات الحديثة في جامعة ساسكس، لموقع “تي آر تي وورلد” مؤكدا “أن شكسبير ضمّن حوالي 150 إشارة إلى الأنماط الإسلامية في 21 مسرحية” وهو رقم كبير فيما لو عرفنا أن شكسبير كتب 39 مسرحية، ومن بين تلك الإشارات، ورد ذكر العطور العربية في مسرحية ماكبث بقوله” لا زلت أشمّ رائحة الدم، وليس بمقدور كلّ العطور العربية أن تعطّر هذه اليد الصغيرة”، أمّا مسرحية ( كليوباترا) فأحداثها تدور في مصر القديمة، وكان بطل مسرحيته (عطل) مغربيّا مسلما يعيش في مدينة البندقية الإيطالية.
وإذا كنّا قد تحدّثنا في مقال سابق عن استعدادات المحلّات التجارية في لندن لاستقبال رمضان، فلم تكتفِ العاصمة البريطانية بتعليق (فوانيس رمضان) ومجسّمات هلاله، وما إلى ذلك من رموز رمضانية تلامس وجدان المسلم المقيم في عاصمة الضباب، يحدّثني عنها باستمرار صديقي الشاعر عدنان الصائغ، فإن مبادرات الإفطار الجماعي تقدّم ترجمة عملية لتلك الرموز، وتحويلها إلى وقائع تذيب الخلافات، وتقوّي أواصر المحبّة بين المسلمين، وتعرّف الآخر بقيمنا، وعاداتنا، وخطاب ديننا الحنيف القائم على إشاعة المحبّة، والتسامح، والأخوّة الإنسانية التي أشارت إليها مقولة الإمام علي بن أبي طالب (رض) الشهيرة “الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”.
إنّ مثل هذه المبادرات من شأنها أن تعمّق العلاقات الإنسانية القائمة على احترام الآخر، وعاداته وتقاليده، وهذا التنوّع يضفي على المجتمعات البشرية ثراءً معرفياً وجمالياً، وقد عزّز المكان- مسرح شكسبير غلوب – ذلك، فإذا بالصائم يتقاسم المائدة مع (الملك لير).