الروائي الأردني جلال برجس يكتب عبر “أثير”: مكتسبات رمضانية

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير – الروائي الأردني جلال برجس

من إحدى عاداتي التي تقف كسبب وراء نحولي، هي عدم قدرتي على الكتابة إن كانت البطن ممتلئة، حينها أشعر بغياب الصفاء الذهني الذي يقف كواحد من العوامل المهمة وراء عبوري إلى منطقة الكتابة، وخاصة الروائية. لهذا أجد شهر رمضان فرصة سانحة لمستوى استثنائي من الصفاء، ليس فقط البدني، والعقلي، بل والروحي أيضًا؛ فأكتب بشراهة ربما لم أعلن عنها من قبل، بل حتى أجد أن ما أكتبه في هذا الشهر أكثر وضوحًا من غيره.

حينما لا تجد الملذات طريقًا إلى الجسد المتأهب دومًا لها، فإن العقل يصفو، وتصفو الروح أيضا، ويصبح الإنسان حرًا من كل ما يمكن تسميته بالاستعبادات اليومية، كالرضوخ كثيرًا لنداء المعدة، واللذائذ الأخرى. إن هذا الشكل الفريد من الحرية الروحية والجسدية، يميطان اللثام عن طاقة مستترة تمكن الإنسان من رؤية نفسه بشكل أكثر وضوحًا، ومن رؤية ما حوله عبر مساحة وافرة من التأمل الروحاني. فرض الصوم-بعد غرضه الديني-لعيش ما يحس به بالفقير في مكابداته اليومية، وهنا تتحقق الخصلة الإنسانية التي يمكن أن تطمرها أنانية التراكبات الزمنية المدفوعة بسمات الحداثة واستغراقاتها الآنية. ووجد لتطويع الجسد ليبتعد عن الارتهان لأي انصياع يمكن أن يمارسه الإنسان على نفسه، أي لتجنبه أخطر أشكال العبودية التي غالبًا ما تقود الآدمي إلى الهبوط من مكانته العالية، والوقوع في حفرة الكراهية، والأنانية، وهو وراء قضبان سجن أوهامه.

إن الإحساس بمن اعتادوا سياط الجوع، وبحريتنا مما ننغمس فيه لمدة عام، ينميان فينا صفة العطاء التي ما عاد منها شيء إلا تنظيراتها المنبرية. والفهم الجوهري لمعنى أن يكون الإنسان متكافلًا مع إنسانيته، وبالتالي تجاوز فردية أخذ الزمن الجديد بكل التباساته يجذرها بوجه روح جماعية بنيت عليها الحياة في الأصل.

في النهار أكتب كمن ينظر عبر نافذة زجاجها لا تشوبه شائبة. وفي المساء أنحاز إلى عائلتي الصغرى والكبرى، فهذا الاجتماع اليومي حول مائدة الافطار أراه وقوفًا بوجه كل ما يمكن أن يفتت بنية العائلة. لقاء يمتد إلى ما بعد الافطار بساعات فيها ألفة وتقارب مهمين. أما ما تبقى من الليل حتى وقت السحور فإنه وقت لاستئناف الكتابة المشوبة بحنين يأخذني إلى الماضي، وإلى الطفولة بالذات وهذا مرد بعضه عدم قدرة الواقع على موازاة الذاكرة، لهذا نلتفت دومًا إلى الوراء. وحين أفعل ذلك فإني أتذكر تلك الأيام من شهر رمضان حين كانت القرية نقية، بكرًا، وهادئة، لم تطلها يد التكنولوجيا، ولا كل ما نلمسه اليوم من تغول الهندسة على العمران. أستعيد تلك اللحظات التي كنت أجلس فيها على ربوة يقع عليها بيتنا، وأحدق بمنارة جامع مادبا الكبير، التي ما إن تضاء حتى يتهادى إلى مسمعيَّ صوت انطلاق مدفع رمضان، حينها تأتي أصوات الصبية من جهات القرية متفاوتة، بريئة، ومصابة بفرح غامر وهم يرددون: (دب المدفع، دب، دب). يعم السكون في تلك اللحظات، ولا يتبقى إلا صوت نباح الكلاب، وثغاء الماعز، وخوار الأبقار، وتهليلات من هنا وهناك.

في تلك المرحلة الأهم من حياتي كنت منحازًا ككثير من الأطفال إلى جدي وجدتي، فكل شيء بمعيتهم لذيذ وهانئ. أجلس معهم على مادة الطعام الذي جله من الخضروات، ومما يعد في البيوت. لقد كانت بساطة غنية، وعميقة، في الطعام، والعيش، وفي ليل ذلك الشهر الذي يلقي بظلاله المباركة على الجميع. يأتي الرجال إلى (ديوان) جدي يشربون الشاي، والقهوة، ويتبادلون الحكايات عن الأنبياء، وأولياء الله الصالحين، ومما حدث لهم في نهاراتهم، ومما سمعوه، ومما تحفظه ذاكراتهم المتقدة. كنت منصتًا جيدًا، وحافظًا لما يقال، بل حتى أني أروي ما حفظته لأقراني فيما بعد.

تستعيد ذاكرتي روائح ما كان يحمله إلينا والدي من أطعمة وحلويات وهو يعود من عمله جنديًا في الصحاري البعيدة. وتستعيد ما يرويه لأمي عن الأيام التي يغيبها بعيدًا عنا. كنا نتحلق أنا وشقيقاتي وأشقائي حوله منصاعين لما يقع علينا من دهشة المروي الجديد. لم يكن المسحراتي يأتي إلى قريتنا، لكن صوته كان يتهادى إلينا من أطراف (مادبا)، وكان ذلك كافيًا للصحو والوقوف إلى النافذة ومخيلاتنا ترسم صورًا مقدسة لمن يطوف بالناس ويدعوهم إلى الصحو. رسمت له صورة لا تفارق ذاكرتي إلى الآن: رجل طويل القامة، يرتدي عمامة خضراء، له وجه نقي، ومضاء. خطواته مضبوطة كإيقاع طبله الذي يضربه بتراتبية جميلة. لقد كان رمضان شهرًا منتظرًا طوال العام، لا زحام فيه، ولا عراكات. لا تخمة تطال البطون، بل شهرًا يرفد أرواحنا ببهجة استثنائية.

Your Page Title