أثير – الروائي الأردني جلال برجس
في طفولتي رأيت طيور (الكركي) تعبر سماء قريتي الخريفية، وهي تطلق صوتًا جميلًا يشبه صوت البوق، هاربة من قسوة الشتاء في بلدان الشمال البارد. كانت تطير بشكل جماعي متناسق ليس فقط مع زرقة السماء الساحرة في ذلك اليوم، بل أيضًا مع وجهتها التي يشير إليها قائد ذلك السرب الساحر. لقد غبطتها في سنين لم أكن بعد فيها قد رأيت ما يكفي من الحياة التي لا نكتفي منها. ربما لهذا السبب ولأكثر من مرة امتطيت عصا المكنسة أملًا بأن تنتفض روحها وتطير بي إلى بلدان بعيدة. وللسبب نفسه أدمنت السفر عبر مخيلتي مستعينًا بمطارات الكتب التي تحكي عن مدن فيما وراء البحار، مدن الضوء، والشوارع التي تعج بالسهارى، والمقاهي التي تعقد صداقة أبدية مع الأرصفة، وعازفي الشوارع، والنساء اللواتي يلقين لوجوه الغرباء ابتسامات طرية. مدن تبيح لك أن تمارس حريتك المشتهاة.
وحين مرت السنين تساءلت، ومشهد طيور (الكركي) يتكرر عند مطلع كل شتاء: لماذا تسافر الطيور، ولماذا عليها أن تفارق أعشاشها، ثم تعود؟ تسافر الطيور حين تخاف، وحين تجوع، وتسافر سعيًا إلى بهجات جديدة. ويسافر الكاتب مدفوعًا بأسباب تلك الطيور للترحال، لكن دافعه الأكثر بروزًا أن مخيلته في حالة تنقل دائم نحو ما هو خارج على قسوة الواقع، وآلامه. الكاتب كائن غير مستقر، كائن متحرك، تعنيه مخيلته أكثر من جسده، حتى وهو رهينة مكان بعينه، من هنا يصبح السفر شكلًا من أشكال إحداث التوازن بين ما تحلم به المخيلة، وبين ما يمكن رؤيته على أرض الواقع.
تقت إلى السفر مبكرًا حين رأيت عمي عزيز يعود من (رومانيا) في إجازته السنوية دارسًا للطب، ثم يغادر. وغرقت في ذلك التوق أكثر حين عثرت على حقيبة جلدية فيها كل رسائله الورقية، وقد كُتبت بأسلوب أدبي يعلوه الحنين، وامتداح البلدان البعيدة. كان عمري أحد عشر عامًا عندما رأيت المطار، والطائرة، والمسافرين لأول مرة. ولا أدري لماذا لم أرَ صورتيّ المطار العاطفيتين: صورة الحزن الذي يخيم على قاعة المغادرين، وصورة البهجة التي تعلنها بسخاء قاعة القادمين. رأيت فقط ما على وجوه المغادرين والمودعين من بهجات واضحة رغم بكائهم. كنت منفصلًا عن أحاسيسهم القروية الساذجة وهي ترى في السفر احتمالات غياب أبدي، ومتصلًا بفكرة الهروب ليس فقط من القحط والغبار والألم نحو بلدان خضراء، بل من وحشة قديمة.
حين أسافر أشعر بأن يدًا عند بوابة الطائرة تمنع ما يوجعني من الترحال معي، وما أن تحلّق حتى أحس بخفة غير معهودة، تأخذني إلى شراهة في مراقبة وجوه الناس، وفي القراءة، والكتابة. تصبح الأشياء أكثر وضوحًا، وتسريح الذاكرة من تصفح أوراقها العتيقة. أصير أكثر رغبة باكتشاف الأماكن، والناس، وحتى حكايات عابري الطرق. أصير أكثر توازنًا حتى في الإنصات إلى أوجاعهم، وأتحول إلى مستمع أكثر مما يمكن أن أكون متحدثًا لبقًا. يسافر الكاتب ليكتشف ما لم يطأ أرض ذاكرته، لكن الأمر أبعد من ذلك؛ إذ أن السعي في السفر سعي ذاتي أبعد من التعرف بثقافات جديدة، وأناس جدد، وفضاءات مختلفة. الأمر يبدو لي معاينة أنفسنا من زاوية جديدة؛ إذ أننا بأمس الحاجة للتعرف بحقيقتنا التي تشغلنا بوتيرة ملحة؛ ففي ترحالنا شعور بخفة تحرر الروح من سجنها، وتمنحها القدرة على معاينة ذواتنا بسلاسة غالبًا ما تؤدي إلى تقبل الحياة بكل ما يعتريها، من هنا يسعى الكاتب إلى السفر، لأنه حين يكتب عن الناس فإنه يكتب نفسه، كعنصر متحرك في كون مليء بالأسرار والألغاز. وحينما نضع ما نكتب على طاولة القارئ فإننا نعطيه فرصة أن يعاين ذاته، لكن بعينيّ الآخرين. لا أسافر لاكتشاف الناس، وأماكنهم، وأزمنتهم فقط. لا أسافر فقط لأحوش طيور المسرة، إنما أفعل ذلك لأرى نفسي واضحًا بلا رتوش، وفي بالي مشهد طيور (الكركي)، ونصيحة (بابلو نيردوا) في قصيدته الشهيرة (يموت ببطء)
“يموت ببطء
من لا يسافر
من لا يقرأ
من لا يسمع الموسيقى
من لا يعرف كيف يجد شيئًا
بفضل عينيه”