فضاءات

الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي يكتب لـ “أثير”: بَشرٌ أم “زبائن” في سوق العولمة؟

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير- الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي

تقف البشرية عند مفترق طرق.
التحولات السياسية المترافقة مع تسارع مذهل في تطور التكنولوجيا الذكية توجِد تحديات جديدة.
الإنسان اليوم يشهد ولادة عالم جديد يخرج من رحم تلك التحولات التي لا يقتصر أثرها على العلاقات بين الدول والحكومات، بل يطاول العلاقات الإنسانية سواء أكانت بين الأفراد أو الجماعات. وكل ولادة لا بد لها أن تترافق، للأسف، مع أوجاع وآلام ودماء.
لئن كانت وسائل التواصل الاجتماعي قد غيّرت فعلًا الكثير من طبائع علاقاتنا، وقلّصت مساحة التواصل المباشر لمصلحة تواصل افتراضي بارد لا يكتنز الدفء الإنساني الذي يولّده اللقاء الواقعي، فإن ما نشهده الآن، وسوف نشهده في قابل الأيام، على مستوى تطور التكنولوجيا خصوصا لجهة الذكاء الاصطناعي سيكون له بالغ الأثر على تلك العلاقات، وعلى مستقبل البشرية برمتها كما يؤكد الكثير من العلماء والخبراء العاملين في هذا المجال.
الحديث عن الذكاء الاصطناعي وما يحمله من تحديات يملأ وسائل الإعلام والتواصل، ويشكّل هاجسًا كبيرًا حتى لرواده والعاملين فيه، لكن حديثنا الآن يدور حول أمر آخر ذات صلة بما تعيشه البشرية من وقائع وتحولات جميعها متداخلة ومترابطة إلى حد بعيد، فالخطاب الإعلامي والإعلاني الذي تتوجه به الشركات الصناعية والتجارية العملاقة العابرة للحدود والقارات، والميديا الحديثة المؤثرة، لا ينفصل عن المسار الذي تضعنا عليه تلك التحولات.
المتابع للمحتوى الإعلامي والإعلاني الذي تعتمده الشركات المعولمة بوسائطها المختلفة، والمساهِمة من خلف الستائر في صناعة الرؤوساء والحكومات، يلاحظ أنها لا تخاطب البشر بوصفهم بشرًا وإنما بوصفهم زبائن. مجرد زبائن تتم مخاطبة غرائزهم قبل عقولهم.
معظم المحتوى المذكور يركّز على عناوين ذات صلة بما يُشبع الغرائز المادية: الجنس، الأكل، الشرب، السفر، الموضة، المقتنيات الفارهة، الجسد والقوام الممشوق…إلى آخره. فيما يغيب كليًا عن تلك الحملات الإعلانية الضخمة أي محتوى يُرَوِّج (مثلًا) لكتاب جديد، لمعرض رسم، لمسرحية ذات مضمون، لعمل غنائي أو موسيقي من خارج الصندوق.
حين نقول الحملات الإعلامية والإعلانية لا نقصد فقط الدعايات التجارية المدفوعة الثمن. حتى الأفلام الهوليودية والأغاني والكليبات المصورة تقدّم المحتوى نفسه: فتيات فاتنات، طائرات خاصة وسيارات باهظة الثمن، قصور وبيوت فاخرة، ملابس تحمل علامات تجارية “سينيه”، على إيقاعات موسيقية مكررة ومستهلَكة، وكلمات بلا معنى تجتر الموضوعات نفسها حتى أن “نجمًا” غنائيًا وتمثيليًا معروفًا بتفاخره بمقتنياته ودولاراته يتم تسويقه على أنه النموذج والقدوة للشباب المعاصر!
هنا، لا يسعنا سوى أن نفتح هلالين ونتذكّر نجومًا من وزن نور الشريف وأحمد زكي وسواهما ممن قدموا نماذج حقيقية لكيف يكون الفنان/النجم. وهذا له بحث متصل آخر.
الخطاب الموجه لعموم البشر من قِبل الشركات العملاقة وصنّاع الرأي العام والنخب المسيطرة يكاد يحصر قيمة الفرد بقوته الشرائية، لا بقوته الفكرية أو الروحية أو سواها من صفات وسمات تميز الإنسان عن سواه من الكائنات، فهؤلاء لا يريدون للبشر أن يكونوا مختلفين عن بقية المخلوقات، يريدون أن يقتصر اهتمام الإنسان على ملء بطنه وإشباع غرائزه المادية. أما السمو الروحي والعقلي والتفكير فتلك أمور يجب تركها، وترك “النخب” تدير العالم على هواها.
لست ممن يرذلون الجسد ورغباته، ولا ممن يحتقرون الغرائز الجسدية التي فُطِرَ البشر عليها. لكني أؤمن بأن الإنسان لم يُخلَق فقط كي يسعى إلى إشباع غرائزه الجسدية والمادية. إذ لو اكتفى بهذا الأمر لَأمسى كائنًا متوحشًا أسوَة بكل الكائنات التي لا يعنيها سوى الجنس والطعام والشراب.
أرى إلى الإنسان بوصفه أرقى من أن يكون مجرد مخلوق غريزي. هو خليفة الله في الأرض بحسب التعبير القرآني، وعلى صورته ومثاله وفق المفهوم المسيحي. وأيا كانت عقيدته أو انتماؤه هو أسمى من أن يكون مجرد “زبون” في سوبر ماركت عالمي هائل حجمه بحجم الكوكب كله. كوكب يحظى وحده (حتى الآن) بنعمة الحياة، يريد المسيطرون عليه جعل تلك الحياة مجرد فسحة لإشباع البطون والغرائز، ودفع الناس إلى التخلي عن التفكير أو السعي نحو السمو الإنساني والروحي.
هذا التحدي الهائل الذي أوجدته العولمة التكنولوجية والاقتصادية والإعلامية يفرض على المثقف الملتزم المهموم بقضايا المجتمع والناس أن يرفع الصوت عاليًا رفضًا لعملية تحويل البشر إلى بهائم، مثلما يضع المؤسسات الثقافية والإعلامية المتمكنة والقادرة أمام مسؤولية الانخراط في مواجهة الانحطاط الذي يُدفع العالم إليه، فلا يقتصر عملها على إقامة المهرجانات والندوات وتوزيع الجوائز(على أهمية هذا الأمر) بل أيضا وضع إستراتيجيات تُعنى بكيفية مواجهة هذا الانحطاط الذي يتمدد يوما تلو آخر، وتُعلي شأن الإنسان بوصفه كائنا عاقلا لا مجرد دابة في أرض الله الواسعة.







Your Page Title