أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج
في ظل فكرة استعادة ميراث نجيب محفوظ الأدبي، الذي رسخ بجهوده الفنية الكبيرة الرواية كجنس مستقل بنظمه وأفكاره ومكوناته الفنية من المفيد ترهين بعض الاسئلة الثقافية والأدبية، التي لم نعرف كيف نجابهها في وقتها، نظرا لتعقدها وحساسياتها وعوضناها بالخطاب الحاسم الذي لا يقبل أي جدل، ولم نوله الأهمية التي يفترضها: هل يجب مثلا حرق نجيب محفوظ لأنه «أيد اتفاقيات كامب ديفيد» وقتها؟ اتفاقيات حيدت مصر كقوة عربية فاعلة في الصراع العربي الإسرائيلي؟ هل يجب تغليب السياسي الطارئ على الأدبي المترسخ الذي يشكل هوية نجيب محفوظ الفعلية؟ لأن نجيب محفوظ لم يدع يوما أنه محلل سياسي، فقد انتصر دوما للروائي والمبدع والتخييل؟ أم يجب تغليب الصفة المتعالية، أي صفة الفنان والمبدع؟ فهو الرجل الذي أصّل الفن الروائي ووطّنه مما جعل جائزة نوبل تلتفت بحق لمنجزه الكبير.
إذًا ماذا فعل نجيب محفوظ لتقوم ضده زوبعة ألغت وجوده بجرة قلم ولم تعط أية قيمة لمنجزه الروائي المتوغل في شعبيته؟ بالمقابل، هل ما فعله كاتب بحجمه كان صحيحا ومدروسا ومفكرا فيه بكل أبعاده الوطنية والقومية؟ لقد أيّد اتفاقيات كامب ديفيد بوضوح ومن دون مواربة، ككاتب، ولكن أيضا أكثر من الكاتب بسبب السلطة الرمزية التي يمثلها نجیب محفوظ عربيا. اتهم في السياق نفسه، بأنه لم يكتب عن قضية إنسانية كبيرة مثل القضية الفلسطينية لأنه ظل على هوامشها ولم ينخرط فيها. لا يمكن أن تكتب عن محنة الهنود الحمر مثلا، حرب فيتنام، ولا تكتب عن قضية هي جزء من الوجدان الإنساني والعربي دون ملامستها ومعرفتها عن عمق؟ ما يزال الكثير من أبطال التراجيديا الفلسطينية أحياء إلى اليوم من الطرفين العربي والإسرائيلي وشهاداتهم تجمع على تشريد شعب بكامله من أرضه، وإحلاله بشعب آخر، بحجج دينية واهية، من خلال الهجرات اليهودية المكثفة التي لم يستفد منها حتى اليهودي الفلسطيني الأصيل الذي وجد نفسه مقهورا ومعزولا داخل حرب قادها الذين أتوا من خارج فلسطين. هناك بياض بالنسبة لنجيب محفوظ لا يمكن القفز عليه، بل يستدعي ضرورة فهمه وتأمله بدون مسبقات طبعا. من الصعب مطالبة كاتب بأن يكتب عن موضوعة محددة دون غيرها فقط لأنها مهيمنة على الوجدان السياسي العربي. يظل الروائي، وفق المنطق الإبداعي، حراً في خياراته وإلا سيخسر نفسه قبل خسران نصه. المأخذ الكبير بالنسبة للكاتب هو زاوية النظر التي انطلق منها الكاتب. أي كيف تسكت على الشر عندما يـؤذى وجداننا الإنساني؟ الروائيان الإسرائيليان دافيد غروسمان والموس عوز مثلا، على الرغم مما يمكن أن يُقال عنهما بعد انهيار اليسار الإسرائيلي ومجموعة السلام” “الآن” التي أصبحت ظلا خافتا في الصراع السياسي داخل إسرائيل، لم يصمتا أبدا في اللحظات التاريخية المفصلية، فقد دافعا باستماتة عن حل الدولتين. وكانا من المناصرين إسحاق رابين وياسر عرفات قبل اغتيال الأول، وتسميم الثاني.
هناك من الكتاب الإسرائيليين من ذهب إلى أبعد من ذلك. في شهر ديسمبر، غادر الكاتبان ایتان برونشتاین Eitan Bronstein Aparicio إسرائيل، التي جاءها مهاجراً من الأرجنتين برفقة والده وعمره خمس سنوات، وصديقته اليونوري ميرزا Eleonore Merza وهي من أصول فرنسية متخصصة في الأنتروبولوجيا السياسية تركا إسرائيل بشكل نهائي احتجاجاً على الاعتداءات الإسرائيلية اليومية ضد الشعب الفلسطيني. أسس إيتان منظمة زوخروت في 2001 التي فضحت إسرائيل أيام النكبة. ثم ألفّا كتاباً مشتركا أعطياه عنوان النكبة (تذكر) Zochrot كشفا فيه جرائم ما تسميه إسرائيل “التحرير”. لم يستطيعا تحمل الوضعية العسكرية والإيديولوجية والسياسية الدينية العنصرية، المتطرفة في إسرائيل. بعد جهود حقيقية، عثرت اليونوري ميرزا على وظيفة في بروكسل، التحقت بها. مباشرة سافرا واستقرا هناك رهانهما الكبير كما يقول إيتان برونشتاين هو إنقاذ ابنهما من ظلام نظام تربوي معسكر في إسرائيل، بعد أن يئسا من أي إمكانية للسلام: “لا أرى في الأفق أي إمكانية السلام حقيقي هناك أمثلة كثيرة أعلن أصحابها عن أراءهم تجاه المذابح التي ارتكبتها إسرائيل ويرتكبها جيشها إلى اليوم في ظل نظام فاشي ديني توسعي لا يؤمن إلا بالقوة.
ألم يكن حري بمثقف عربي كبير كنجيب محفوظ، كما يقول بعض منتقديه، أن ينتصر ككاتب للحق؟ لنجيب محفوظ وجهة نظر في ذلك. كررها كثيرا في الندوات والحصص التليفزيونية (مثلا أمسية ثقافية تليفزيونية مع فاروق شوشة) أيد خلالها الاتفاق الإسرائيلي المصري وقال إنه فعل ذلك من أجل فلسطين للخروج من وضعية اللاحرب واللاسلم المؤذية للفلسطيني بالدرجة الأولى، فقد قتل العرب من الفلسطينيين أكثر مما قتل الإسرائيليون” (الكلام لنجيب محفوظ مع فاروق شوشة)؟ وأنه لن يكتب عن فلسطين في النهاية إلا الفلسطيني، وأنه، في رواية «الحب في المطر» توجد شخصية أبو النصر الفلسطينية التي توقعت الكوارث التي حصلت لاحقاً. الرواية عالم معقد يحتاج إلى معاشرة حقيقية للأحداث. هيمينغواي كتب عن أوروبا لأنه ارتحل نحوها في الحرب الأهلية الإسبانية، بل وانخرط فيها بقوة وكان من رواد الأدب الاستقصائي الذي لا يكتفي بفعل التخييل على أهميته. بينما بقي فولكنر مجمداً في عالمه الروائي المغلق لأنه لم يغادر أرضه، إضافة إلى هذا، فقد كتب نجيب محفوظ في 1978م في رسالة موجهة للناقد إسرائيلي البروفيسور سامسون سوميخ، الذي درس عميقاً أعمال نجيب محفوظ: “كتابك علي يعتبر عملاً نقدياً عميقاً وشاملاً، وأنه يعتبر من أفضل ما كتب عني إن لم يكن أفضلها جميعا، طبيعي أنني لمست فيه حبك للأدب العربي ولاجتهاداتي. تحرياتك لا تنطلق من عقلية عدو بل أن دراستك كانت غنية في المقام الأول وإنسانية بالمعني الشامل والدقيق… ” البروفيسور سوميخ يعتبر محفوظ الجسر الرابط بين الأدب العربي والأدب العبري من خلال رواياته المترجمة إلى العبرية، مثل زقاق المدق، ثرتثرة فوق النيل، ميرامار، أولاد حارتنا، وغيرها. فقد شاهد الألوف من الإسرائيليين على شاشة التلفزيون الإسرائيلي، العديد من الأفلام التي نقلت الأجواء الشعبية المصرية من خلال تحويل روايات محفوظ سينمائياً. إضافة إلى ذلك كله، روايات محفوظ مبرمجة ويتم تعلمها في الجامعات العبرية. وكرس له البروفسور سوميخ فصولاً في ذكرياته بالعبرية والإنجليزية. ساعده على ذلك صلته الكبيرة والحميمة بالأديب وإعجابه به حيث تقاسما الكثير من الأفكار كما كرس سوميخ أطروحة الدكتوراه لإنتاج محفوظ الأدبي الغزير وجعله يلتقى بعدة شخصيات أدبية من إسرائيل منها سامي ميخائيل وايلي عمير.
في مسألة السلام، والكتابة. هل يجب حرق نجيب محفوظ السياسي المؤسساتي والروائي العظيم؟
بعد هذا كله وغيره مما لم أذكر، علاقته بمحفوظ تخطت كل الحواجز التاريخية وذهبت نحو المنتج الروائي إذ إن ما يهم في نجيب محفوظ هو منتجه الروائي الذي يشكل هويته الأدبية الحقيقية، وليس أراءه السياسية كما يقول الكثير من النقاد. بعد هذا كله، هل يجب حرق نجيب محفوظ لأنه لم يكتب عن فلسطين روايات ذات قيمة حقيقة؟ أو لأنه سار في مسارات “كامب ديفيد”؟ الذي يجب ألا ننساه هو أن نجيب محفوظ رجل كبر في المؤسسة، يعني في الإدارة التي هي الدولة مصغرة بكل نظمها الفارغة أحيانا، وانضباطها المفزع الذي لا يمكن تجاوزه، وتحول الإنسان إلى حشرة مسحوقة، كما وصفها كافكا. فهو يحمل في أعماقه الكثير من أثقالها وأوهامها وضغوطها. على الرغم من انتقاده لها نقداً لاذعاً لقد عبر نجيب محفوظ زمنا ً طويلاً وصعباً، وعرف هذه المؤسسة بعمق عن قرب حتى شكلته وحددت مساحاته الثقافية والاجتماعية، وكتب عنها. وبحث أحيانا عن رضاها، وعدم الاصطدام بها بشكل مباشر يعرف جيدا أنها طاحونة قاتلة، ولا يملك أي سبيل لكسرها إلا فعل الكتابة، ما الانصياع المسبق لها، فانتقدها دون أن يتخلى عنها إذ هي مصدر ماله وحياته. انتقدها بعنف في كل كتاباته. وافق المؤسسة في صورتها المتعالية، يعني الدولة، عندما ذهبت نحو كامب ديفيد، واعتبرها مخرجاً، رفض أيضا أن يصطدم بالأزهر وألح، بل أوصى بألا تنشر رواية أولاد حارتنا الإشكالية، إلا بمقدمة من شخصية مرموقة من الأزهر، وكان له ما أراده في النهاية. فقد صدرت الرواية في مصر بمقدمة من الكاتب الإسلامي أحمد كمال أبو المجد على الرغم من أنه ليس ناقدا روائيا لا من بعيد ولا من قريب. مقدمة ضعيفة أدبياً، ظلت بعيدة عن عظمة الرواية. لكن ذلك كله لم يمنع نجيب محفوظ من انتقاد المؤسسة الدينية نقدا لاذعاً في الكثير رواياته، لم يكن محللاً سياسياً، لكنه فضل تمرير كل مواقفه الرافضة عبر الرواية التي تعتبر حرفته الأساسية، انتصر نجيب محفوظ الرواية أولاً وأخيراً، كفعل حر ودائم يتخطى السياسي الطارئ ومن يقرأه. بدون مسبقات سياسية، لا يشك لحظة واحدة في جرأته وقوة لنفاذ بصيرته، وعقلانيته الفذة، لهذا من الصعب تقييم نجيب محفوظ من زاوية واحدة: السياسي، دون أن يعني ذلك عدم قراءة مواقفه ونقدها بصرامة. ما بقي اليوم من نجيب محفوظ هو الروائي، ولا شيء آخر غير الروائي. الكاتب الفرنسي العظيم سيلين، رائد التجديد الروائي اللغوي والفني في فرنسا، وصاحب رائعة «رحلة إلى منتهى الليل» كتب مقالات معادية للسامية، مليئة بالأحقاد والضغائن، استعاد فيها صورة اليهودي في نهايات القرن التاسع عشر في أيام إيميل زولا، ومارسيل بروست وأناتول فرانس، لكن الذي بقي اليوم من سيلين قوته الفنية والروائية الاستثنائية، بينما تحول الباقي إلى مادة تاريخية لا أكثر. يذهب نحوها المختصون وليس عشاق قراءة الرواية.